الدرس السادس و الخمسون
الدعاء
الدعاء یعنی الإستعانة و الإسغاثة بأحد أو شیء أو طلب شیء منه .. و الدعاء إنما یکون صحیحاً إذا توفّر فی المدعوّ شرطان:
أحدهما: أن یکون ذا شعور و عاقلاً، یسمع نداء الداعی، و یفهم طلبه.
الآخر: أن یکون قادراً علی تنفیذ مطلب الداعی، و قضاء حاجته.
و علی هذا فلیس من الصحیح أن یدعو الإنسان الجمادات، و کذا لا یصح أن یدعو من لا یقدر علی قضاء حاجته، و تنفیذ مطلبه، إلّا أن یکون الداعی یتخیّل أن المدعوّ قادر علی ذلک.
و لهذا فانّ علی العباد ـ بغیة قضاء حوائجهم و حلّ مشکلاتهم ـ أن یمدّوا ید الاستغاثة و الاستعانة إلی الله تعالی، و یطلبوا منه سبحانه حوائجهم، لأنه أقرب الأشیاء إلی العباد و لأنه حاضر أینما کانوا، یسمع دعاءهم و نداءهم و یقدر کذلک علی تلبیة مطالیبهم و حوائجهم.
إنّ الإنسان و جمیع الکائنات مخلوقون لله تعالی، و مرتبطون به ذاتاً و صفاتاً و أفعالاً و آثاراً ارتباط المعلول بعلّته، بل هم عین الفقر و الربط. فکل ما عندهم، هو من الله تعالی، بحیث لو انقطع فیضه عنهم لحظةً واحدةً لفَنَوا جمیعاً، و تبدّل وجودهم إلی عدم.
و علی هذا فإنّ الله تعای عالم بجمیع عباده محیط بهم إحاطَه قیّومیّةٍ و علمٍ، وهو قریب إلیهم .. یسمع إستغاثاتهم، و یقدر علی قضاء حوائجهم.
إنّ علی الإنسان أن یتذکّر فقرَه الذاتیّ أبداً دائماً، و یطلبَ منه حاجاته، و بهذا الطریق یکون قد عَمِلَ أمرین:
من جانبٍ یکون قد لجأ إلی الله خالقِ الکونِ، فی رفع إحتیاجاتِهِ، فهو یستمدّ منه، و یستغیث به.
و من جانب آخر یکون قد خضع أمامه و أظهر العبودیة له تعالی، وهو لا شک عبادة موجبة للتقرب إلی الله.
وهنا یجب الإشارة إلی مطلبین:
المطلب الأول: أنّ الدعاء عبادة واقعیّة بل هو من أفضل العبادات، لأنّ العبادة تعنی فی الحقیقة أنّ العبد یعتقد أن الله مالکه الحقیقیّ، و أنّه مملوک له و عبدُ من عباده، فیخضعُ له و یُظهُر العبودیة بین یدیه، و یرفُع إلیه فقرَه، وفاقته، و هذا المعنی نفسُه موجود فی الدعاء أیضاً.
و لهذا وُصف الدعاء بالعبادةِ فی القرآن و الحدیث أیضاً:
(وَ قالَ رَبُّکُمُ ادْعُونی أَسْتَجِبْ لَکُمْ إِنَّ الّذِینَ یَسْتَکْبِرُونَ عَنْ عِبادَتیِ سَیَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِینَ).(1)
لقد عدّ ترک الدعاء فی الآیة المذکورة إستکباراً عن العبادة.
عن حنان بن سدیر عن أبیه قال: قلت لأبی جعفر علیه السلام: أیّ العبادة أفضل؟
فقال: ما من شیء أفضل عند الله عزّوجلّ من أن یسأل و یطلب مما عنده، و ما من أحد أبغض إلی الله عزّوجلّ ممن یستکبر عن عبادته ولا یسأل ما عند الله.(2)
و عن سیف بن التمار قال: سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول: علیکم بالدعاء فانّکم لا تقرّبون بمثله، ولا تترکوا صغیرةً لصغرها أن تدعوا بها، إن صاحب الصغار هو صاحب الکبار.(3)
حمّاد بن عیسی عن أبی عبدالله علیه السلام قال: سمعته یقول: ادع ولاتقل: قد فرغ من الأمر، فانّ الدعاء هو العبادة، إنّ الله عزّوجلّ یقول: (إِنَّ الّذِیْنَ یَسْتَکْبِرُوْنَ عَنْ عِبادَتیِ سَیَدْخُلُونَ جَهَنّمَ داخِرِینَ) قال: (ادْعُونی أَسْتَجِبْ لَکُمْ).(4)
و علی هذا فان الدعاء من أفضل العبادات، لو اُتی به بقصد القربة استوجب تکاملَ النفس و التقرّب إلی الله، و الثواب الاخرویّ، و هذا أثر یترتّب علی الدعاء حتماً .. و ان لم تَترتّب علیه آثار دنیویة.
إن الذی یعتبر نفَسه عبداً لله یجب أن لا یغفل عن هذه العبادة الکبری أبداً وفی أیّ حالٍ من الأحوال.
المطلب الثانی: یستفاد من الآیات أنّ الدعاء لو تحقق لاستتبع الإجابة حتماً:
(وَ إِذَا سَأَلَکَ عِبادِی عَنّی فَإِنّی قَرِیبٌ أُجِیبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْیَسْتَجِیْبُواْ لِی وَ لْیُؤْمِنُوا بِی لَعَلّهُمْ یَرْشُدُونَ).(5)
إنّ الله تعالی یقول لنبیّه فی هذه الآیة: إذا سألک عبادی عنی، فقل لهم إنی قریب إلیهم فلیدعنی من شاء اجبه .. ففی الآیة المذکورة کما تلاحظون لم یشترط فی الإجابة شرطاً، ولم یعلّقها علی شیء، و انّما رتّب الاجابة علی الدعاء بصورة مطلقة بل بعبارة «إذا دعان» أشار إلی نکتة مهمّة جداً وهی أنه یقول: إننی إنما اجیب الدعاء، إذا کان العبد یدعونی حقیقةً، و واقعاً.
من هذه الآیة یستفاد أنّ دعاء العبد إنما یحظی بالاجابة إذا لم یأمل غیر الله و لم یرج شیئاً او شخصاً سواه، بل دعا الله خاصة و من أعماق قلبه، و صمیم ضمیره.
إن طلب شیء من الله یجب أن یتحقّق فی القلب أوّلاً؛ ثم یجری ذلک علی لسانه لا أن یتصوّر مفهوماً مّا فی ذهنه، و یجری ألفاظاً علی لسانه، بینما یعلّق آماله فی باطن کیانه، علی العلل و الأسباب الطبیعیة و یعتبرها هی المؤثرة.
و علی هذا فانّ الانقطاع عمّا سوی الله، و طلب شیء من الله بجدّ، شرط فی استجابة الدعاء لأنه بدون ذلک لا تتحقق حقیقة الطلب من الله، لتتحقّق ـ بعد ذلک ـ الإجابة. ولکن هذا الکلام لا یعنی بالمرّة إنکار تأثیر العلل و المعلولات الطبیعیة و تأثرها، بل المراد هو أن الداعی یجب أن یلتفت إلی أنّ جمیع العلل و المعلولات الطبیعیّة محتاجة فی وجودها و تأثیرها إلی الله المتعال، و مرتبطة به، غیر مستقلة عنه، لا فی ذاتها، ولا فی آثارها.
إن منشأ جمیع هذه الافاضات هو الله الحق، ولکن أبی الله أن یجری الامور إلّا بأسبابها.
و علی هذا الأساس فإنّ من علل عدم إجابة بعض الأدعیة هو أنه لم یتحقق الدعاء الواقعی حتی یستتبع الإجابة.
ولقد اشیر ـ فی بعض الأحادیث ـ إلی هذا الموضوع أیضاً.
عن سلیمان بن عمر قال: سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول: إنّ الله عزّ وجلّ لا یستجیب دعاءً بظهر قلبٍ ساهٍ، فاذا دعوت فأقبل بقلبک ثم استیقن بالإجابة.(6)
قال أمیرالمؤمنین علیه السلام: لا یقبل الله عزّوجلّ دعاء قلبٍ لاهٍ.(7)
موسی بن جعفر علیه السلام قال: قال قوم للصادق علیه السلام: ندعوا فلا یستجاب لنا؟
قال: لأنّکم تدعون من لا تعرفونه.(8)
و عن موسی بن جعفر علیه السلام عن أبیه جعفر بن محمد عن آبائه عن علی علیهم السلام عن النبی صلّی الله علیه و آله، قال: یقول الله عزّوجلّ: ما مِن مَخلوقٍ یعتصُم بمخلوقٍ دونی إلّا قطعتُ به أسبابَ السماواتِ و أسبابَ الأرض من دونه، فإن سألنی لم اعطِهِ و إن دعانی لم اُجبهُ، و ما من مخلوقٍ یعتصُم بی دون خَلقی إلّا ضمّنت السماوات و الأرض رزقَه، فإن دعانی اجبتُه، و إن سألنی أعطیته، و ان استغفرنی غفرت لهُ.(9)
العلة الثانیة ـ قد لا یحظی الدعاء اللسانی بالاجابة لأن الداعی یطلب فی باطنه شیئاً آخر، لأنّ الإنسان یطلب مصالحه الواقعیة دائماً، و إذا ما نجده یطلب شیئاً من الله بلسانه فلأنه یتصور أن ذلک الشیء من مصادیق مصلحته الحقیقیة، ولو أنه علم أن ذلک لیس من مصلحته لما سأله من الله مطلقاً.
و علی هذا فان الإنسان ربما یطب بلسانه شیئاً من الله لا یطابق مصالحه الواقعیة، و یطلب فی باطنه شیئاً آخر .. و فی هذه الصورة لا یستجاب دعاؤه أیضاً.
و ربما تقتضی مصالح الإنسان الاخرویّة أن لا یحظی دعاؤه بالإجابة، حتی یظلّ علی ارتباطه بالله، و یدیم حالة الدعاء و المناجاة، و بهذه الطریقة یتقرّب إلی الله، و ینال المثوبات العظیمة فی عالم الآخرة.
عن اسحاق بن عمار عن أبی عبدالله علیه السلام قال: إنّ المؤمَن لیَدعو الله عزّوجلّ فی حاجته فیقول الله عزّوجلّ أخّروا إجابَته شوقاً إلی صَوته و دُعائه، فاذا کانَ یوم القیامة قال الله عزّوجلّ: عَبدی دَعَوتنَی فأخّرتُ إجابَتَک و ثوابَک کذا وکذا، و دَعوتَنی فی کذا وکذا فاخّرتُ إجابتک و ثوابَک کَذا وکذا. قال: فیتمنّی المؤمنُ أنه لم یُستَجَبَ له دعوة فی الدنیا مما یَرَی من حُسنِ الثَوابِ.(10)
و عن أبی عبدالله علیه السلام قالَ قَال رسول الله صلّی الله علیه و آله: رَحِمَ الله عَبداً طَلب من الله شیئاً عزّوجلّ حاجةً فألحّ فی الدعاء استجیبَ له أو لم یُستَجب له، و تلا هذه الآیة (وَ أَدْعُوا رَبّی عَسى أَلاّ أَکُونَ بِدُعاءِ رَبّی شَقِیّا).(11)
و علی هذا الأساس یکون هذا الدعاء أحد أکبر العبادات التی لو اتی بها علی وجه الإخلاص و بقصده لاستوجب التقرّب إلی الله والزلفی لدیه. و لیس للعبد الذی یقرّ بالعبودیّة لله أن یغفل عن هذه العبادة أبداً و فی أیّة حال من الأحوال، و إن لم تقترن ـ حسب الظاهر ـ بالإجابة، التلبیة.
إشکال ـ یمکن لأحد أن یعترض علی أصل مسألة الدعاء و یقول: إنّ ما یطلبه الإنسان من الله إما أن یکون من المقدرات الالهیة، و موافقاً للعلل و الأسباب الطبیعیة فیتحقق ذلک المطلب فی هذه الصورة و من دون الدعاء أیضاً، و کان الدعاء حینئذ عبثاً و أمراً غیر مفید.
و إما أن لا یکون من المقدرات الالهیّة، ولا تکون له علل طبیعیة، لم یکن للدعاء فی هذه الصورة، أثر کذلک، لعدم تحقّق العلل الطبیعیة، وقد أبی الله أن یجری الامور إلّا بأسبابها.
و علی کل تقدیر یکون الدعاء عملاً بلا أثر.
الجواب: فی الإجابة علی هذا السؤال یمکن أن یقال: إنّ الإسلام لا ینکر العلل و الاسباب الطبیعیة، بل یری من اللازم وجود مجموعة العلل و المعلولات الطبیعیّة لتحقق شیء .. وقد خلق الله ذاته الظواهر الکونیة عن طریق العلل و الأسباب الطبیعیة، ولکن بالنسبة إلی الدعاء الذی یتحقق و یستجاب فان الدعاء نفسه یکون جزءً من علل الشیء الذی لا یتحقق إلا عندما تکتمل علّته التامة، و یفاض الوجود من جانب الله المتعال، و بمشیئته.
و بناء علی هذا یمکن تغییر القضاء الالهیّ بواسطة الدعاء.
ولقد اشیر إلی هذا المطلب فی الأحادیث أیضاً .. و إلیک من باب النموذج ما یأتی:
بسطام الزیات عن أبی عبدالله علیه السلام قال: إنّ الدعاء یردّ القضاء وقد نزل من السماء وقد أبرم إبراماً.(12)
عمر بن یزید قال: سمعت أبا الحسن علیه السلام یقول: إنّ الدعاء یردّ ما قد قدّر وما لم یقدّر، قلت: و ما قد قدّر عرفته فما لم یقدّر؟ قال: حتّی لا یکون.(13)
عبدالله بن سنان قال: سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول: الدعاء یردّ القضاء بعد ما اُبِرَم إبراماً، فاکثر من الدعاء فانّه مفتاح کلّ رحمة، و نجاح کلّ حاجةٍ ولا یُنالُ ما عِنَد الله عزّوجلّ إلّا بالدعاءِ و إنّه لیس باب یُکَثُر قَرعُهَ إلّا یوشَک أن یُفتَحَ لِصاحِبِه.(14)
أبو ولاد قال قال أبو الحسن موسی علیه السلام: عَلَیکُم بالدُعاء فإن الدُعاء للهِ و الطَلَب إلی الله یردّ البَلاَء، وقد قدّر و قُضِیَ ولَم یَبقَ إلّا إمضاؤه، فإذا دعی الله عزّوجلّ و سُئِلَ صرِفَ البَلاء صَرفَةً.(15)
فکّروا و أجیبوا
1ـ لماذا یجب أن یمدّ الناس ید الحاجة إلی الله؟
2ـ کیف یمکن أن یعتبر الدعاء عبادة؟
3ـ فی أیة صورة یستجیب الله لعبده؟
4ـ ما هی العلة الاولی لعدم إجابة الدعاء؟
5ـ ما هی العلة الثانیة لعدم إجابة الدعاء؟
6ـ ما هو الإشکال علی أصل مسألة الدعاء و ما هو الجواب؟
1 ـ غافر: 60 داخرین: أذلّاء.
2 ـ الکافی: ح 2 ص 466.
3 ـ الکافی: ج 2 ص 467.
4 ـ الکافی: ج 2 ص 467.
5 ـ البقرة: 186.
6 ـ الکافی ج 2 ص 473.
7 ـ الکافی ج 2 ص 473.
8 ـ البحار ج 93 ص 368.
9 ـ البحار ج 1 ص 155.
10 ـ الکافی ج 2 ص 490.
11 ـ الکافی ج 2 ص 475.
12 ـ الکافی ج 2 ص 469.
13 ـ الکافی ج 2 ص 469.
14 ـ الکافی ج 2 ص 470.
15 ـ الکافی ج 2 ص 470.