الحوار الثالث ظاهرة المهدية

 الحوار الثالث
ظاهرة المهدیة

اکتمل حضورالأصدقاء فی منزل السید فهمی . و بعد تبادل کلمات المودّة ، والساعة تشیر إلی الثامنة مساء ً، بدأ الحوار و کان المهندس هو البادئ .

المهندس : ذکر أحد الکتاب - علی ما أتذکر - أن الیمان بالمهدی والمصلح قد تسربت إلی الذهنیة الإسلامیة ، فالفرس مثلا ًکانوا یعتقدون بظهوررجل من سلالة «زرداشت» واسمه «سااوشیانت» وانّه سیقتل «أهریمن» أوالشیطان وأنّه سیطهر العالم من الرجس ؛ امّا الیهود الذین عانوا الأسروالسبی علی یدی الکدانیین والآشوریین فیقد کانوا یؤمنون بما بشّربه انبیاء هم بظهور ملک یعید الیهم حرّیتهم . واذا کانت هذه الظاهرة قد وجدت لدی الأقوام قبل الإسلام ، فمن المحتمل جدّا ًانتقالها إلی المحیط الإسلامی ، وأنها لا تعدوان تکون اسطورة .

نبیه : صحیح ان ّ الیمان بظهور مصلح للعالم کان شائعا ًلدی بعض الأقوام ، ولکن هذا لا ینهض دلیلا ًعلی اسطوریة هذه العقیدة . فهل تعد ّمخالفة الاسلام لعقائد الأدیان الأخری دلیلا ًعلی حقانیته ؟! ان من یرید البحث فی صحة عقیدة ما علیه أن یراجع أدلّتها والوثائق التی تعزّز صحتها ، لا أن یراجع کتب القدماء وما لدی الأقوام الأٌخری من عقائد مشابهة ، ثم یقیم الدنیا ولا یقعدها قائلا ً: انّه قد وجد جذورهذه العقیدة وأنها تعود إلی هذه الأقوام أوتلک ، وأنّها مجرّد أساطیرلیس إلا.

لقد کان الفرس القدماءی ؤمنون بالله ویعدّون الصدق خلقا ًسامیا ً، فهل یحقّ لنا أن نعدّ الله أسطورة وننبذ الصدق بعیدا ًفلا نعدّه خلقا ًحسنا ً ؟!

وإذن فانّ یمان الأ قدمین بظهورالمصلح لا یعدّد لیلا ًولا مسوغا ًفی اسطوریة فکرة المهدی ، کما لا ینهض برهانا ً لإثبات هذه العقیدة .

بواعث ظهور المهدیة

فهمی : فلسف أحد الکتّاب قصّه المهدیة فی الإسلام بشکل جمیل أعرضه لکم لو سمحتم .

الحاضرون : تفضل .

فهمی : تعود جذورالمهدویة إلی الأقوام التی عاشت قبل الإسلام ، ولما ظهرالشیعة أخذوا هذه العقیدة عنهم ثم أضافوا لهابعض الإضافات . وهناک أمریعدّان من بواعث ظهورونشوء هذه العقیدة لدی المسلمین وهما :

أولا ً: إن ّالیمان بظهورالمنقذ الغائب کان وما یزال شائعا ًلدی الیهود وأنّهم کانوا یعتقدون بأن «إلیاس» قد رفع إلی السماء وأنه سیعود فی آخر الزمان لإنقاذ بنی إسرائیل کما أنهم یعتقدون بأنّ «ملکصیدق» و «ابن العازار» میزالان فی الحیاة .

وفی صدر الإسلام اعتنق فریق من الیهود الدین الإسلامی من أجل مصالح دنیویة وأحیانا ًلهدم العقیدة الإسلامیة من الداخل من خلال بث ّ العقائد المنحرفة والباطلة وجعلها جزءا ًمن الإسلام . ویمکن القول ان ّعبدالله بن سبأ کان أحد هؤلاء .

ثانیا ً: بعد وفاة النبی (صلّی الله علیه وآله وسلمّ) وما تلا ذلک من حوادث مریرة کإقضاء علیّ بن أبی طالب عن الخلافة ترک أثرا ًعمیقا ًفی محبیه وأنصاره الذین استبشروا بعودة الحقّ إلی نصابه . ولکن الإمام الذی تسنّم الخلافة فی ظروف عصیبة وفتن داخلیة لم تتح له الفرصة للإصلاح ، فقد استغرقت الحروف الداخلیة کل ّجهده ووقته إلی ان سقط شهیدا ًفی المحراب .

ولما تصدّی الإمام الحسن الخلافة بعده ، کان معاویة قد أحکم قبضته علی الشام ومناطق أٌخری ، وراح یهدد عاصمة الخلافة ، و ری الحسن أن السلام والتنازل عن الخلافة بشروط هوالطریق الوحید لحفظ البقیة الباقیة من تراث جدّه العظیم .

وآل الأمرإلی أن یحکم بنوأمیة وتکون بیدیهم وسائل القدرة والنفوذ ، فیما ظل ّالحسن والحسین بعید بن .

ولقد عانی أهل البیت وشیعتهم فی العهد الأموی کل ّصنوف القهرالاجتماعی ، وأصبحت مقدرات المسلمین ملکا ًًخاصّا ًلبنی أًمیة، وبنی العباس من بعدهم ، وکان نصیب العلویین ومن ناصرهم القتلٌ والتشرید والسحن .

وخلال تلک الحقبة المریرة من الزمن وقعت آلاف المآسی بدءا ًمن إقصاء علیّ عن الخلافة مصادرة میراث فاطمة الزهراء من أبیها ؛ مدبحة عاشورء واجتیاح المدینة المنورة فی عهد یزید ؛ إلی الاعدامات طالت کثیرا ًمن صحابة النبیّ مثل حجربن عدی وعمرو بن الحمق الخزاعی ؛ وآلاف المآسی والآلام . فی مثل هذا الجوّ الخانق والیأس المریر، لابدّ أن تتبلورفکرة المصلح الغائب وأن تجد لها تربة خصبة للنمووالتجذّروأن تصبح أملا ً لخلاص المعذبین فی الأرض ، من أجل ذلک کان الشیعة یوحون لأنفسهم بالأمل علی ید المصلح الممتظرالذی سیکون - ولا بدّ - من أهل البیت المظلومین علی مرّ التاریخ . وهکذا ظهرالمهدی فی تاریخ الإسلام . (1)
لا حاجة للتبریر

نبیه : إن ّما تفضلتم به حول المصائب التی ألمّـت بأهل البیت وشیعتهم صحیح . وسیکون الموضوع مقبولا ًلو لم یکن هناک مصدرواضح ومنشأ أساس للمهدیة ، وهوالنبیّ (صلّی الله علیه وآله وسلمّ) الذی بشّربظهورالمهدی وتطهیرالأرض من الظلم والفساد ، وأن ّالاعتقاد بالمهدی إنّما نشألأن رسول الله حدّث وبشّرأصحابه بظهوره ، والأحادیث التی تتضمن عقیدة المهدیة لم تقتصرعلی رواة الشیعة ؛ فقد رواها السنّة أیضا ً فی الصحاح . واذن فإننا لا نحتاج إلی مثل هذا التحلیل حول نشوء المهدیة وظهورها فی الوسط الإسلامی .

وأن ّقولکم بأنّها کانت شائعة لدی الیهود وغیرهم هوالآخرصحیح ولکن ل یعنی انّها تسرّبت إلی المسلمین عن «عبدالله بن سبأ» الیهودی ، فتواترالأحادیث یشیرویؤکّد ان ّمصدرهذه العقیدة هو رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلمّ) ومن المحتمل ان یکون الیهود الذین أسلموا فیمابعدقد یدّ وها فقط .

عبد الله بن سبأ

من المسائل التی ینبغی الإشارة الیها والتوقف عندها هی شخصیة «ابن سبأ» ذلک الیهودی الذی أسلم حدیثاً ًواستطاع فی مدّة وجیزة من إحداث تحوّلات تاریخیة مثیرة ؛ و قد أثبت لدراسات التاریخیة الحدیثة ان هذه الشخصیة لا وجود لها علی الإطلاق و أنّها اسطوره اختلقها أعداء الشیعة ، و إلاّ فهل یمکن لعاقل ان یصدّق بأن رجلا ً یهودیا ًتمکن أن یکون له کلّ هذا التأثیر العمیق والخارق ، وان یتحدّث بفضائل أهل البیت فی محیط قمعی و ان یؤلّب المسلمین ضد الخلیفة حیث لقی مصرعه فی ثورة عارمة ، و مع کلّ هذا یبقی بمنی عن الاتهام ، فلا یذکره أحد ، فهذا لا یمکن تصوره إلاّ فی عالم الخیال . (2)

المهندس : هل یقتصرالیمان بالمهدی الموعود علی المسلمین أم أن هذه العقیدة موجودة فی سائر الأریان الآُخری ؟

نبیه : لیس المسلمون وحدهم یؤمنون بهذه العیقدة ، بل یمکن القول أنّها موجودة لدی جمیع الأدیان السماویة و أنّ أتباع هذه الأدیان جمیعا ًیؤمنون بظهور «المصلح» أو «المنقذ» أوالمخلّص الذی یصلح شأن العالم بعدأن یعم ّالظلم وینتشر الفساد ، و أنّه مدعوم یقوّة غیبیة ، و ان النصرسیکون حلیفه .

و هذه البشری موجودة فی کل ّالکتب التی یدّعی أصحابها بأنّها سماویة ، فهی موجودة فی کتاب «زند وپازند» وکتاب «جا ماسبنامة» وهما من الکتب الزرداشتیة المقدّسة ، و التوراة و الانجیل ، و هی موجودة أیضا ً فی کتب البراهیة الهندوس و البوذیین ، وهم جمیعا ًینتظرون الرجل الموعود الذی سیأتی من أجل انقاذهم .

وکل ّامّة تدّعی أنّه منها ؛ و لهذا فإننا نجدله أسماء عدیدة مختلفة ؛ فهو «سوشیانس» أومنقذ العالم لدی الزرداشتیین و«السید المیکائلی» لدی الیهود و «المسیح الموعود» لدی النصاری «المهدی المنتظر» لدی السملمین .

و هو فارسی من نسل زرداشت لدی اتباع زرداشت ، و هو من بنی إسرائیل لدی الیهود ، ویعدّه النصاری مسیحیا ًفیما یعتقد المسلمون انّه علی دین الإسلام ومن ذریة النبیّ محمّد (صلّی الله علیه وآله وسلمّ) .

علی أننا نجد هذه العقیدة واضحة لدی المسلمین أکثرمن غیرهم ، وهذا لا یعنی أننا نرید أن نستدلّ علی صحة هذه العقیدة بما ورد فی کتب الأدیان الأٌخری ، ولکن یمکن القول أن الاعتقاد بالمصلح الموعود هو عقیدة قدیمة بشّربه الأنبیاء أممهم ، وأنّ مصدرها الوحی الإلهی ، و قد شابتها الخرافات و الأساطیر عبر الزمن .

القرآن و المهدیة

فهمی : لو کان لهذه القضیة وصید من لوجدنا لها ذکرا ًفی القرآن ؛ وهوآخرالکتب السماویة مع اننا لا نجد اسم المهدی أبدا ًفی القرآن الکریم.

نیبه : هناک عقائد وأٌمورنؤمن بها وهی صحیحة ومع ذلک لیست مذکورة فی القرآن الکریم ، بل ما أکثرالمسائل التی نؤمن ونتعبّد بها و هی غیر موجودة فی القرآن . هذا أوّلا ً ، و ثانیا ً: یمکن القول بأن هناک اشارات عدیدة تبشّر بشکل عام بیوم موعود ینتصرفیه عباد الله الصالحون حیث یظهر الدین الإسلامی علی الدین کلّه.

قال تعالی : «لقد کتبنا فی الزبور من بعد الذکر أن ّالأرض یرثها عبادی الصالحون» . (3)

و قال سبحانه : «وعد الله الذین آمنوا منکم و عملوا الصالحات لیستخلفنهم فی الأرض کا استخلف الذین من قبلهم ولیمکننّ لهم دینهم الذی ارتضی لهم ولیبدّ لنهم من بعد خوفهم أمنا ًیعبدوننی لا یشرکون بی شیئا» . (4)

وقال سبحانه : «ونرید أن نمن ّعلی الذین استٌضعفوا فی الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثین».(5)

وقال سبحانه : «هوالذی أرسل رسوله بالهدی ودین الحق ّلیظهره علی الدین کله ولو کره المشرکون».(6)

و کل ّ هذه الیات تبشّر المؤمنین بنصر الله وأنّه سیحلّ الیوم الذی فیه الإسلام ربوع الأرض ، وستحل ّعبادة الله وحده محل ّالشرک و الکفر و الوثنیة ، و سینعم العالم بعصر مشرق مفعم بالیمان و السلام ، علی یدی منقذ البشریة المهدی الموعود .
النبوّة العامة و الإمامة

فهمی : أنا لا أدری لما ذا تصرّون أنتم الشیعة علی حتمیة وجود الإمام ، فاذا لم یکن ظاهرا ًفهو غائب . أذا کان الأنبیاء قد بینوا فما هو الداعی لوجود الإمام ؟

نبیه : إن ّالأدلّة التی تنهض لإثبات النبوّة العامّة والوحی ، هی نفسها تقضی یضرورة وجود الإمام الذی یحفظ الشریعة ؛ ولإثبات هذا الا دّعاء یتوجب أولا ًاستعراض أدلّة النبوّة العامّة ثم الانتقال بعد ذلک إلی مسألة الإمامة . هی إجمالاً کما یلی :

أولا ً: الإنسان کائن اجتماعی بالطبع ، فهوعاجزعن أدارة حیاته لوحده بل هومحتاج إلی عون الآخرین من نوعه . بتعبیرآخرإنّه مخلوق للحیاة الاجتماعیة ، وهذه الطبیعة فی حیاة الإنسان سوف تقود فی النهیة إلی التزاحم حول المصالح الذاتیة ، محاولا ًدفع الآخرین عن طریقة فی تحقیق الذات .

وبالطبع فإن الآخرین لن یقفوا مکتو فی الیدی فهم یندفعون کل ّ حسب مصالحه فی ذات الطریق ، ومن هنا یبدأ التنافس وبالتالی العدوان علی الآخرین ، وتنبع الحاجة إلی قانون وشریعة تنظم الحیاة وتحفظ الحقوق وتقضی علی الفواضی ، و من هنا یمکن القول أن الشریعة أو القانون هو أعظم کنزاکتشفه الإنسان ، و أنّ المجتمعات البشریة کانت وما تزال تنظر باحترام إلی القانون کضرورة حیاتیة .

ثانیا ً: إن ّالله أودع فی فطرة الانسان قابلیة التکامل وجعل سیعة إلی السعادة من غرائزه الإنسانیة ، فالإنسان بفطرته ینشد هدفه باستمراروهو یتحرّک باتجاه تحقیق هذا الهدف دون تعب أونصب .

ثالثا ً: وإذا کان الانسان مجبولا ًعلی التکامل فینبغی تمهید الطریق أمامه وتقدیم العون له من أجل تحقیق غیته ؛ ذلک أن کل ّشیء مخلوق بقدر، ولا وجود للعبثیة فی الخلق .

رابعا ً: إن الإنسان یتألیف من جسم وروح ، و ان الجسم منتمی إلی عالم المادّة ، فیما تنتمی الروح إلی عالم المجرّدات .

خامسا ً: ان الإنسان مرکب من جسد و روح علی هذا فستکون له قهرا ًحیاتان ؛ إحدا هما مادّیة تتعلّق بجسده والأٌخری نفسانیة أو معنویة وتتعلق بروحه وهو فی کلتا الحیاتین إمّا فی سعادة أوشقاء .

سادسا ً: و نظراً للارتباط الوثیق بین الجسم و الروح فإنّ تأثیرا ً متبادلا ًیسود الجانبیین ، فالتغییرات التی تطال الجسد ستؤثرولا شک فی النفس الإنسانیة ، وفی المقابل فإن ّالانفعالات النفسیة لها أثرها فی جسم الإنسان .

سابعا ً: إن الإنسان انانی بطبعه یسعی لتحقیق ذاته فقط علی حساب الأخرین ، المقابل فإنّ الانفعالات النفسیة لها أثرها فی جسم الإنسان .

ثامنا ً : إنّ الإنسان یتحرّک دائما ً باتجاه التکامل ویسلک مختلف الدروب الی ذلک ولکنه یخفق أحیانا ًفی اختیار الطریق ، فهو یهجز أمام غرائزه ومیوله وینسجب أمام تحدیاتها ، أو أنّها تشوش نظرته إلی الحقائق فیتصور الأوهام حقیقة ، وعندها ینحرف باتجاه الهاویة .

أی القوانین تُسعد الانسان

و لأن الإنسان مظطرّ الاجتماعیة ، وان النزاع والصراع والاستغلال و حتی العدوان من نتائج هذه الحیاة ، فمن الطبیعی والمنطقی أن تنشأ الحاجة إلی قانون ینظم العلاقات الإنسانیة ویمنع حدوث الفوضی فی الحیاة الاجتماعیة ، و القانون الذی یحقق هذا الهدف لابدّ أن تکون مقوماته کالآتی :

أوّلا ً: ان یکون قادرا ًعلی تنظیم شؤون الإنسان مجتمعات وأفرادا ًوان یلبّی حاجات الإنسان ، وأن یکون موفقا ً فی إدراک التطلّعات البشریة علی صعیدی الروح والجسد .

ثانیا ً: ان ینطوی هذا القانون علی أهدف ومعالم تدفع بالإنسان فی طریق السعادة الحقیقة بعیدا ًعن الأوهام .

ثالثا ً: ان یکون القانون شاملا ًیکفل لا سعادة لکل ّالبشرولا مقتصرعلی قومیة معینة دون الأٌخری .

رابعا ً: أن تکون غیته بناء المجتمعات علی أساس من الفضائل الإنسانیة ، وأن یحدد معالم الطریق إلی تحقیق هذه الغیة ، وان یوحی إلی البشربأن ّ الدنیا لا تعد ّهدفا ٌبذاتها بل هی طریق إلی مستقبل حقیقی فی الآخرة .

خامسا ً: أن یکون متوازنا ًفی اهتمامه بالشؤون الإنسانیة وأن یمنح الجانب الروحی والمعنوی للحیاة حقّه کاملا ً.

سادسا ً: ان یکون المشرَّع محیطا ًبکل دقائق الإنسان وتفاصیل الحیاة مدرکا ًلمنافع البشرالحقیقیة وما یعتورهم من مفاسد وأضراروما یصاحب الزمن من تغیرات وتحوّلات.

وهکذا فإن ّالبشریة تحتاج إلی مثل هذا القانون ، با إنّه ضرورة من ضرورات حیاتها واستمرارها ، وإلاّ تدهورت الحیاة الإنسانیة واتخذت سمتها نحوالسقوط .

والسؤال هنا هل یمکن للقوانین الوضعیة أن تضمن النجاح فی هذه المسؤولیة الکبری ، وهل ستوفق فی إدارة الحیاة البشریة أفرادا ًومجتمعات ؟! نحن نؤمن یمانا ًعمیقا ًبأن القوانین البشریة التی یشرّعها الإنسان سوف تکون قاصرة وعاجزة ، وستأتی تعبیرا ًعن عجزالإنسان وقصورأدراکه للأسباب التالیة :

1) ان العلوم الإنسانیة مهما تقدّمت فإنها تبقی ناقصة ومحدودة لا تسبرغورالحاجات الفعلیة والحقیقیة للبشر، وإنّها ستکون عاجزة عن تمییزالخیرمن الشرّمتخلفة إزاء الغیرات والتحولات عبر الزمن .

2) وعلی افتراض نجاح الإنسان فی هذا المضمارفإنّه سیبفی عاجزا ًعن تنظیم حیاته الروحیة والتی تشکلّ جانبا ًأساسیا ًفی شخصیته ، ومن هنا نری اهمالا ً لهذا الجانب الحیاتی فی القوانین الوضعیة . وکلّ ما تعاجله هذه القوانین هوالمتطلبات المادیة للإنسان فقط .

وإذا أدرکنا الارتباط الوثیق بین الروح والجسد فی شخصیة الإنسان وحیاته ، أدرکنا عمق الشرخ الذی تحدثه القوانین الوضعیة فی مصیرالإنسان .

3) ولأن الإنسان أنانی مجبول علی حب ّذاته ، فإنّ استغلاله لأبناء نوعه سیکون أمرا ًلا مفرّمنه . فالمصالح الذاتیة هی دائما ًمقدّمة علی مصالح الآخرین ، ومن هنا فإن ّمن یشرعون القوانین لابّدو انهم سیکونون خاضعین لهذه المیول الطبیعة ، وبالتالی فإن ّمنافعهم الشخصیة ومصالحهم الذاتیة سوف یکون لها الأولویة وستکون لها امتیازات خاصّة.

وفی فإن ّشرعة الله وقانونه سیکون موافقا ًلحاجات الإنسان ، لأن ّالمشرّع هوالخالق ، وهومنزّه عن کلّ الأهواء ، ومن هنا فإن ّمن لطف الله أن أرسل الأنبیاء وبعث الرسل لهدیة البشریة إلی الطریق القویم .

سعادة الآخرة

الإنسان وهو یعیش حیاته الدنیا ، فإن ّفی أعماقه حیاة أٌخری مجهولة ، هی علی خقائها تحّدد سعادة الإنسان أوشقاءه ، فالأفکاروالعقائد والأخلاق الحسنة والصالحات من الأعمال هی التی ستکون سلّمه فی الرقی والتمکامل الروحی والأخلاقی ، وبالتالی سعادته ، وبعکس ذلک سوف یکون الخٌلق الخابط والشرورسببا ًفی انحطاط الإنسان وسقوطه فی الهاویة !

فإذا سلک الإنسان طریق التکامل فسوف تتألّق ذاته وتظهرحقیقته وتتکامل نفسه ویعرج إلی العالم الذی ینتمی إلیه فی المنشأ وهوعالم الآنواروالسعادة . أما إذا نبذ کل ّکما لاته الروحیة والأخلاق الإنسانیة من أجل إشبته عزائزه الحیوانیة ، أصبح أسیرا ًفی قبضة الهوی وأضحی مجرد حیوان یسعی من أجل لذائذه متخبطا ًفی أودیةٍ مظلمة تعج ّبالشرور.

ومن هنا فإن ّالجانب الرحی الإنسان هو الآخربحاجة إلی قوانین وشرائع ترشده إلی الطریق القویم ، ذلک أن الغرائزالحیوانیة والمیول النفسیة غالبا ًما تقف سدا ًمنیعا ًوحجابا ًمظلما ًیمنع العقل من الرؤیة الواضحة واکتشاف الطریق الصحیح ، فتقوده إلی الهاویة ؛ بل انّها تقلب الموازین أحیانا ًفتریه الصواب خطأ ً، والسیئات حسنات . وفإن ّالإنسان ومن أجل ضمان سعادتی فی الآخرة یحتاج إلی قوانین من خالق الإنسان جسما ًوروحا ً.

ان الله سبحانه لم یترک الإنسان الذی یحمل فی أعماقه القابلیة للخیروالشرّ؛ السمو والإنحطاط ؛ السعادة والشقاء ، لم یترکه سدی ًدون إرشاد وتعالیم ، بل أرسل له الأنبیاء مبشّرین ومنذرین ، وأنزل معهم الکتب لتکون طریقا ًللإنسان یسلکه إلی السعادة الأبدیة ، وإنقاذا ًمن أودیة الجهل والشقاء .

 

طریق التکامل

إن ّالأخلاق الحسنة والاعتقادات الحقّة والصالحات من الأعمال هی الطریق القویم و الصراط المستقیم فی العودة إلی الله تعالی ، وقد أرسل الله أنبیاء ورسله لیبلّغوا الناس کافّة بشرائعه ، و هذا لا یعنی أنّها قوانین قهریة أو شرائع قسریة بل إنّها تنسجم مع الذات الإنسانیة و الفطرة البشریة و هی الطریق الوحید الذی یحقق التکامل للإنسان ، وبالتالی دخوله الجنّة والفوزبالسعادة الأبدیة والنعیم الخالد ؛ وتعبییرآخر: أن الطریق القویم الذی تتکامل فیه النفس الإنسانیة و یحقق لها السعادة و الکمال هوالدین الحقّ ، حیث الانحراف عنه یعنی السقوط فی هاویة الرذیلة و الغزائز الحیوانیة ، و بالتالی حیاة الشقاء و الجحیم .

عصمة الأنبیاء

أن ّمن ألطاف الله و رحمته أن بعث الأنبیاء والرسب لإبلاغ شارئعه و ترشید البشریة فی طریق الخیر، وأن تکون هذه الشرائع خالیة من کل ّنقص أوخطأ ؛ لأن رسله وأنبیاء معصومون من الخطأ مبرّأون من النیسان ، فهم تجسیدٌ حیٌّ لشرائعه و هم القدوة و الأسوة والنموذج و المثال ، یدعون الناس بأفعالهم قبل أقوالهم ، وبسیرتهم قبل کلامهم ، حتی لا یبقی البشر فی حیرة من أمرهم ، و من البدیهی ان تکون السیرة و التجسید الحی للأخلاق والمثل أکثرتأثیرا ً فیما لو ظلّت فی إطار النظریات و الأقول فقط .

بعباری أٌخری : إن ّالعلوم البشریة والمعارف الإنسانیة لیست فی مأمن من الخطأ والنقص ؛ لأنّها جاءت طریق الحواس . امّا الشائع والأحکام التی بشّربها الأنبیاء فإنّها من وحی الله ، فهی غیر خاضعة للحواس البشریة المحدودة الإ دراک ، بل هی حقاق عالم الغیب الذی یسری إلی ذواتهم وأفئدهتهم . وبهذا فهم معصومون عن الخطأ منزّهون عن العصیان ؛ لأنّهم یعیشون عالم الشهود ، علی بصیرة من أمرهم ، منعمین بلذائذ الکمال .

إدلّة الإمامة

یمکن اعتماد نفس الأدلّة التی تثبت النبوّة ولا عصمة ، فی ضرورة وجود انسان یخلف النبئّ یکون مسؤولا ًعن حفظ الشریعة وتبلعیها ؛ لأنّ الهدف من وراء النبوّات و إنزال الشرائع لا یتحقق إلا باستمرار تلک الشائع بعیدة عن الزیادة و النقص والتحریف ، ولذا فإنّ الله سبحانه جعل أئمة أوصیاء بعد الأنبیاء .

ویکون الخلیفة أولوصی معصوما ًهو الآخرعن الخطأ فی إبلاغه الشریعة حتی یتحقق الهدف الالهی وتتم ّحجة الله علی عباده ویکون مثالا ًللشریعة فی عمله وقوله وسیرته . ومن هنا فإن الإمام یجب أن یکون معصوما ًعن الخطأ و النقص ؛ لکی یؤدی رسالته وینهض بمسؤولیته الکبری . ویکون عالما ًبالشریعة ، وعلمه لیس عن طریق حواسه بل مأخوذ عن النبیّ و إرشاده ، فهو یعیش حالة الشهود التی تجعله یعیش الحقائق فیعمل فی ضوء ذلک ، فیکون إماما ًللناس وقدوة للبشر.

و بتعبیر آخر إن ّالبشریة تحتاج إلی إنسان کامل یجسّد التعالیم الإلهیة وتتمثل فیه الشرائع و الأحکام السماویة دون نقص أو زیادة ، وان یکون معصوما ًعن الخطأ و العصیان و کل ّ ما یعتور الإنسان العادی من انحراف .

وفی غیاب مثل هکذا انسان تضیع الشریعة ، و تضل ّ البشریة طریقها ، ویکون الخراب .

فالإمام وجود ضروری لازم لاستمرار معرفة الله وعبادته ، فهو مستودع علم الله وسّره ، وهو کالمرآة تتجلّی فیه حقائق العالم فتعشوا لبشریة إلی نوره .

جلال : لیس من الضروری أن یکون شخص واجد عالما ًبا شریعة ، فمن الممکن تقسیمها ویداعها لدی الناس جمیعا ً، وعند ما تدرک کل ّمجموعة جزءا ًمن الشریعة وتعمل بها ، عندها تستمر الشریعة علما ًو عملا ً.

نبیه : أن ّهذا الافتراض خاطئ لسببین :

الأول : ذکرنا فیما سبق أنّه لا بدّمن وجود الإنسان المثال الذی تتحقق فیه مقومات الکمال الإنسانی التی ینطوی علیها الانسان کقا بلیة أودعها الله فی طینته . وفراغ البشریة من هذا المثال یعنی انقراضها لانعدام غیتها .

وتقسیم الشریعة بین أفراد البشر - حسب فرضیتکم - فإن ّکل ّفردو إن کان یحمل جزءا ًمن الشریعة ویعمل بها فانّهم جمیعا ًلا یسیرون فی خط الدین ، بل هم یعیشون حالة من الانحراف عملیا ً فإحکام الدین و الشریعة بربطها و ثاق یحکم تفاصیله و أجزاءه .

الثانی : إن ّ القوانین و الشرائع الإلهیة تنطوی علی هدف هو الهدیة . و علیه یجب بقاؤها ثابتة ، بعیدة عن التحریف و التغیر و التبدّل و الزوال ؛ لتکون طریقا ًللناس جمیعاً. و هذه مسؤولیة لا ینهض بها سوی الإنسان المعصوم الذی یکون بمنی عن الخطأ و الغفلة والنسیان و المعصیة .

امّا لو آمنا بفرضیتکم ، فإن ّالشریعة ستکون عرضة لکل ّالانحرافات ؛ لأن ّالإنسان عرضة لکل ّ التغیرات والمیول ، وعندها تنتفی حجة الله علی عباده .

الإمامة فی ضوء الرویات

نبیه : ان ّکل ما ذکرته عن الإمامة له ما یعززه من النصوص والرویات التی وردت عن أهل البیت (علیهم السلام) و من یرید التحقیق فی ذلک فیمکنه الرجوع إلی کتب الحدیث ، وهذه أمثلة :

قال أبو حمزة :

قلت لأبی عبدالله (الصادق) : أتبقی الأرض بغیر إمام ؟ قال لو بقیت الأرض بغیر إمام لساخت .(7)

وعن الوشاء قال : «سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام : هل تبقی الأرض بغیر إمام ؟ قال : قلت إنا نروی : انّها لا تبقی إلا یسخط الله علی العباد . قال :

لا تبقی إذا ًلساخت» . (8)

وقال ابن الطیار:

سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) یقول : «لو لم یبق فی الأرض إلاّ اثنان لکان أحدهما الحجة» . (9)

وقال أبو جعفر (علیه السلام) :

«والله ما ترک الله أرضا ًمنذ آذم (علیه السلام) ألاّ وفیها إمام یهتدی به إلی الله وهوحجّة علی عباده ولا تبقی الأرض بغیر امام حجّة للهٍ علی عباده» . (10)

وقال الصادق (علیه السلام) : «ان ّالله خلقنا فأحسن خلقنا وصوّرنا فأحسن صورنا وجعلنا خزّانه فی سمائه وأرضه ولنا نطقت الشجروبعبادتنا عبد الله ولو لانا ما عبدالله» . (11)

وعن الصادق (علیه السلام) أیضا ً: «الأوصیاء هم أبواب الله التی یؤتی منها ولولاهم ما عرف الله ، وبهم احتجّ الله تبارک وتعالی علی خلقه» . (12)

وعن أبی خالد الکابلی قال : سألت أباجعفر (علیه السلام) عن قول الله «فآمنوا بالله ورسوله والنورالذی أنزلنا» فقال یا أبا خالد النور - والله - الأئمة . یا أبا خالد ! لنورالإمام فی قلوب المؤمنین أنـورمن الشمس المضیئة بالنهاروهم الذین ینوَّرون قلوب المؤمنین ، ویحجب الله نورهم عمّن یشاء ، فتظلم قلوبهم ویغشاهم بها» . (13)

وعن الرضا (علیه السلام) فی حدیث طویل.... إلی أن قال : «وأنّ العبد إذا اختاره الله لأٌمور عباده شرح صدره لذلک و أودع قلبه ینابیع الحکمة و ألهمه العلم ألهاما ً فلم یعی بعده بجواب و لا یحیرفیه عن الصواب فهو معصوم مؤید موفّق مسدّد ، قد أمن من الخطأ و الزلل ، و العثار، یخصّه الله بذلک لیکون حجّة علی عباده وشاهده علی خلقه ، وذلک فضل الله یؤتیه من یشاء و الله دوالفضل العظیم» . (14)

وقد ورد عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلمّ) أن أهل البیت أمان لأهل الأرض کما أرن النجوم أمان لأهل السماء : (15)

وقال علیّ (علیه السلام) فی خطبة له : «اللهم بلی ، لا تخلوا لأرض من قائم لله بحجّة إما ظاهراً مشهورا ً أوخائفا ًمغمورا ً لئلا ًتبطل حجج الله و بیناته ، وکم ذا ، وین أولئک ؟ أولئک – والله – الأ قلّون عددا ً، والأعظمون قدرا ً، یحفظ الله بهم حججه وبیناته حتی یودعوها نظراء هم ، ویزرعوها فی قلوب أشباههم ، هجم بهم العلم علی حقیقة البصرة ، وباشرواروح الیقین ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنیا بأبدان معلّقة بالمحل ّالأعلی ، أولئک خلفاء الله فی أرضه والدعاة إلی دینه» . (16)

 

وقال (علیه السلام) فی خطبة أخری :

«فیهم کرائم القرآن وهم کنوزالرحمن ، إن نطقوا صدقوا ، وإن صمتوا لم یسبقوا» . (17)

وقال أیضا ً: «بهم عاد الحق ّفی نصابه ، وانزاح الباطل عن مقامه ، و انقطع لسانه عن منبته ، عقلوا الدین عقل وعیة ورعیة ، لاعقل سماع و رویة ، فإن ّرواة العلم کثیر، و رعاته قلیل».(18)

هذه الأدلّة العقلیة والنصوص المتوافرة تؤید وجود إنسان یتمتع بالکمال یعیش فی الأرض ، وهوالمؤشرالوحید علی استمرار النوع الإنسانی فی الحیاة ، و هو حلقة الوصل بین عالمی الغیب والشهادة ، یتنزّل علیه الفیض الإلهی لیشع ّمنه إلی العالمین .

و إن ّانتفاء وجود مثل هذا الإنسان فی الأرض یعنی انقراض النوع الإنسانی ؛ لانتفاء الغیة و الهدف المنشود . و هذا وحده دلیل علی ضرورة وجود الإمام ؛ فاذا لم یکن ظاهرا ً، فلا بدّ أن یکون متواریا ًعن الأنظار .

لقد امتدّ بنا الحدیث وآن لنا أن نغادر البیت ، علی أن نلتقی فیما بعد .

 

(1) المهدیة فی الاسلام ص48-68
(2) من یریدالتحقیق فی هذاالموضوع یمکنه الرجوع إلی کتاب "وعاظالسلاطین "لعلی الوردی، و"عبد الله بن سبأ"لمرتضی العسکری ،و"علی وبنوه"لطه حسین.
(3) الآنبیاء -یة (105).
(4) النور -یة(55).
(5) القصص –یة (4).
(6) الصف – یة(9).
(7) أصول الکافی ط الاسلامیة سنة 1÷381ج1ص334.
(8) المصدر السابق ج1ص334.
(9) المصدر السابق ج1ص335.
(10) المصدر السابق ج 1ص333.
(11) المصدر السابق ج1ص368.
(12) المصدر السابق ج1ص369.
(13) المصدر السابق ج1ص372.
(14) أصول الکافی ج1ص390.
(15) تذکرة خواص الآمة ط سنة 1285 ص182.
(16) نهج البلاغة الخطبة 147.
(17) المصدر السابق الخطبة(150).
(18) المصدر السابق الخطبة(234).