النبوّة العامة

 النبوّة العامة

تنسحب البراهین و الأدلّة العقلیة التی تثبت وجوب النبوّة علی الله عزوجل ، علی الإمامة فی غیاب الأنبیاء والرسل.

فلابد من وجود فرد معصوم اختاه الله و اصطفاه لعباده لإقامة الدین وتطبیق الشریعة فی حیاة الناس.ومن هنا فإن بحث مسألة النبوّة العامة أمر ضروری للتمهید من أجل بحث الإمامة فی ضوء العقل.

وقبل الخوض فی البحث أجد من اللازم إثارة بعض النقاط کمقدّمة:

الأولی:

أثبت العلوم العقلیة أن الإنسان یتألف من جسد و روح.وهو من ناحیة الجسد ینتمی الی عالم المادّة التی هی عرضة للتغیّر و التبدل ، و هو من ناحیة الروح ینتمی الی عالم المجرّدات ، و هو فی کلّّ هذین البعدین کائن متوحّد. وبتعبیر أکثر دقّة: ان الإنسان فی منشأه ینتمی الی عالمین سفلی و علوی فالسفلی ما ارتبط بالجسد و حاجاته و غرائزه ، و العلوی وثیق الصلة باعمال الروح.

ولأن روح الإنسان متعلّقة بالمادّة ، و هی لیست متجرّدة ، تماما ، فهی تنطوی علی قابلیة التکامل و السمو ، و الروح التی هی واحدة لدی الإنسان فی طفولته تتفاوت مع روح الحکیم فی منزلتها و درجة تکاملها.

فالوجود الإنسانی یبدأ من نطفة تفتقر الی الإدراک و الشعور ثم تتحد داخل الرحم لتبدأ حیاة جدیدة....حیاة جسدیة تنتمی الی حیاة الاُم و تکون جزءاً من تکوینها البدنی.

غیر أن هذا الکائن المتناهی فی الصغر یندج فی مسیرة التکامل الی ان تصبح له حیاة حیوانیة فی إطار الحواس الخمس ، ثم یتکامل شیئاً فشیئا ً حتی یرقی الی الحیاة الإنسانیة التی تتسامی علی حیاة الحیوانات و النباتات ، و یرتفع عن عالم المادّیات و هو فی حرکة دائبة مستمرة.

علی ان روح الإنسان و فی کلّّ مراحل تکاملها لا تعدو کونها حقیقة تتّجه لتحقیق وجودها. وهذا لا یعنی أن نتصور بّّقاءها علی أصلها و جوهرها ، و ان الکمال أمرطارئ علیها ، بل إن معنی التکامل هو نمو جوهری للذات و حقیقة الوجود باتجاه الدرجة الإسمی.وإذن فإنّ طبیعة الخلق الإنسانی انّما تنطوی علی قابلیة التکامل من درجة المادة الفقیرة الی مراحل الکمال حیث یتغیّر الجوهر الذاتی شیئا ً فشیئاً لیرتقی فی عوالم الصفاء والکمال.

الثانیة:

ان الانسان مفطور علی التکامل ، مزوّد بقابلیة ذلک ، و علیه ینبغی ان یکون ذلک ممکناً و میسراً ، و إلّا الأمر عبثاً ، و هو لا ینسجم مع حکمة الباری عزوجل. وکما ان ّکلّّ موجود مادّی یتحرک نحو کماله الممکن الذی أودعه الله فی خلقه ، فإن الإنسان هو الآخر لیس مستثنی ً عن هذه القاعدة العامة ، و هو لیس محروما ً من هذه النعمة الکبری ، بل إن حکمة الله سبحانه تقتضی ان تیسر للإنسان هذه الغایة.

الثالثة:

ان الإنسان یتألف من جسد و روح ، هو بهذا یعیش حیاتین: احداهما دنیویة ترتبط بالجسد و غرائزه و حاجاته ، و اخری روحیة و معنویة تتعلّق بنفسه ، ولکلّّ منهما أسباب للسعادة و عوامل للشقاء.

وهو شاء أم أبی یحیا هذین المستویین من الحیاة فقد یستغرق فی حیاته المادیة غافلاً عن نفسه و روحه. هو إذن یتحرّک نحو السعادة و الکمال الإنسانی أو ینحدرفی هاویة الشقاء والعذاب.

فالأفکار الطاهرة و الأخلاق الحمیدة و الأعمال الصالحة کلّّها تنبع من عالم الوجود و هی عوامل الرقی و الکمال والسعادة. فی مقابل هذا ، العقائد الباطلة والأخلاق السیئة التی تتناقض مع ناموس الوجود و تدفع بالإنسان عن جادّة السراط الی أودیة الضیاع و الشقاء.

فالإنسان الذی یستقیم طریقه انما یتحرک باتجاه التکامل حیث تنموا ذاته ، و تنصقل نفسه ، و یتکامل جوهرة ، ویر تقی سلّم الکمال الروحی و الأخلاقی ، بعد أن یقهر غرائزه الحیوانیة المتحفزة فی أعماقه.

الرابعة:

ان العلاقة الوثیقة بین الروح و الجسد تنعکس علی مدی علاقة الحیاتین الدنیویة و الأخرویة للإنسان فتکسبها ذات الإرتباط الوثیق.

فالنشاط الحیوی للجسد و کلّّ الأفعال البدنیة لها تأثیراتها فی روح الأنسان ، و کذا فإن التقلبات النفسیة و التغیرات الروحیة لها آثارها فی حرکات الإنسان ، و الاستغراق فی الآثام و المعاصی یلوّث النفس الإنسانیة و یجعلها فی جنوح دائم للإنحراف ، و علی العکس تماما ً فإنّ الاستمرار علی أعمال الخیر والإحسان یصقل النفس و یزیدها نقاءً و صفاءً و تجعل قلب الإنسان مضیئاً و تنمو فی أعماقه ملکات الصلاح و الخیر.

ومن الممکن أن یصل الإنسان درجة یسمو فیها فلا یری شیئاً سوی الصفاء والخیر و الإحسان ، کما أن المحتمل أن یتردّی الإنسان إثر ارتکابه الآثام والذنوب فی هاویة السقوط فلا یعرف شیئا ً غیر الشقاء والشرور.

فکلّّ التغیرات النفسیة و التبدّلات الروحیة تنعکس فی أعمال جسدیة تنسجم مع طبیعتها و تتماشی مع سیخیتها.

فالفعل الإنسانی ما هو إلّا انعکاس للذات کما المرآة تعکس ما یقابلها تماما.

ومن هنا لا یمکن الفصل بین الحیاتین الدنیویة و الآخرویة ، حتی یمکن حساب کلّّ واحدة بمنأیّ عن الآخری.

فبدون الأعمال الصالحة و مواقف الخیر لا یمکن أن یرتقی الإنسان الی درجة التکامل الروحی ، و بدون إصلاح النفس و تزکیتها لا یمکن أن ینهض الإنسان بأعمال الخیر والإحسان.

ومخطئ من یقول إنّه لا جدوی من المداومة علی أعمال الخیر لأن الأصل هو إصلاح النفس و طهارة القلب ، فالقمیص قد یصنع القدیس إلی حدّ ما.

الخامسة:

هناک من یتجاهل الجانب الهام فی الإنسان ؛ الجانب الذی یعدّ الأساس فی شخصیته ، فلا یری للکائن البشری سوی حیاة تنحصر فی إطار ضیّق یدور بین الأکل و النوم ، متجاهلا ًروحه العظیمة بکلّّ ما یزخر فیها من مکنونات عمیقة.

فمثلاً یقول أحدهم: إن الإنسان انما وجد لیعیش فیهیئ ما یأکل ، و یوفّر ما یلبس ، و یحافظ علی حیاته ، و یقوم بأنشطته الاجتماعیة ، و اذن ینبغی أن یکون الذین فی هذا الإطار ، فلا یتعدّی بدفع الإنسان الی التفکیر و التعمّق فی إسرار الکون ، و بالتالی إلهائه عن الحیاة و خسارتها (1).

ولا یحتاج هذا الرأی إلی تعلیق ، فهو یطیع بکرامة الإنسان و ینزله من علیائه الشامخ إلی حضیض الحیوانیة التی لا تعرف شیئاً غیر غرائزها و میولها ورغباتها.

غیر ان العلم و الفلسفة ترفض مثل هذه الرؤیة و تجعل للإنسان مرتبة سامیة ومنزلة رفیعة.

ولقد أثبت العلم و الفلسفة أن شخصیة الإنسان إنما تنهض علی الروح و إنّها والإطار العام الذی تتجسد من خلاله انسانیة الإنسان.

وعلی هذا فإن سرّ الخلق و غائیة الوجود الإنسانی هی فی التکامل الروحی والمعنوی ، و إنّ إغفال هذا الجانب الهام فی الکائن البشری هو مصادرة تعسّفیة لجوهر الإنسان وکیانه العام ؛ ذلک أنّ علّة الخلق تکمن فی التکامل الروحی ، و بدون ذلک یتعذّر علی الإنسان و صوله الی الغایة المنشودة.

السادسة:

ان الإنسان و بفطرته یتطلّع إلی الکمال ، و یبحث عن الحقیقة ، و یسعی من أجل الحصول علیها ، بل إن أفعاله و حرکاته تدور حول نیل الکمال لوجوده ، فالکلّّ یتحرّک فی هذا الاتجاه ، و ما یحصل من تخبط انما ینشأً عن الخطأ فی تشخیص الکمال الحقیقی ، فقد یظن متوهما ً ان کماله یکمن فی إشیاء لاتمت إلی الحقّیقة بشی ء فهو ینطلق فی خیاله خاطئا.

فهناک من یری کماله فی المظاهر البراقة من الحیاة ، و هناک من یراه فی ما یملکه من مساحات شاسعة من الأرض و آخر یظنّه فی الجاه و المنصب و النفوذ. وهناک من یتهالک علی إشباع غرائزه فیندفع فی هذا الطریق ملبیّاً کلّّ رغبة تشتغل فی أعماقه و بأی ثمن.

وهکذا نری تخبطاً فی مسار الإنسان و انحرافه عن جادة الطریق.... الطریق الذی یؤدّی سعادتة ، فإذا به یسقط فی هاویة الشقاء دون وعی.

السابعة:

ان الإنسان لا ینطوی علی غریزة اجتماعیة أو هو لیس اجتماعیاً بالذات ، ولکنه یمیل إلی الحیاة الاجتماعیة و یخشی حیاة الوحدة و العزلة ، مقتنعا ً بالحیاة مع الآخرین.

وهنا سؤال عن طبیعة البواعث التی أدّت الی أن یحیا الإنسان هذا الشکل من الحیاة ؟

فهل ان ذلک جاء نتیجة لمیله للإفادة و الاستفادة من أبناء جنسه أم لأنّه یخاف الحیوانات المفترسة ، أم شعوره بالعجز عن الحیاة بمفرد و حاجته للآخرین فی توفیر متطلبات العیش ، أو لإنّه یرید تسخیرالآخرین لمصلحته ؟

وبشکل أوضح هل یهدف الإنسان وراء الحیاة الاجتماعیة مصلحته الخاصة أم التعاون و تقدیم العون؟

هناک أجوبة عدیدة قدمها علماء الانثر بولجیا و تاریخ الأدیان و علم النفس ، ولکلّّ رؤیته و تفسیره فی تحلیل هذه الظاهرة.

غیر أنّه یمکن القول أنّ الحق فی جانب من ینادی بأنّ الإنسان یهدف من خلال حیاته الاجتماعیة الاستفادة من عون الآخرین فی تأمین متطلبات عیشه.

ولتسلیط الضوء أکثر ینبغی القول اننا وبالرغم من غیابنا عن تلک الحقبة من الزمن حیث شهدت الأرض أول التجمعات الإنسانیة حتی یمکننا اکتشاف ومعرفة بواعث هذه التجمعات و الظروف التی أدّت الی ذلک ، و لکن دراسة الإنسان فی العصر الحاضر والإمام بمیوله و غرائزه و طریقة تفکیره و الغوص فی أعماقه ستدلّنا بلا شک علی البدایات الأولی حیث فکّر الإنسان فی أن یعیش مع أبناء جنسه فی تجمّعات محدودة.

لقد وجد الإنسان نفسه جائعاً فراح یبحث عمّا یسدّ رمقه ثم شعر بالظلماً فراح یبحث عن الماء ، و لعلّ هذا الدافع هو أوّل اکتشاف للإنسان و ارتباطه الوثیق بما حوله من نباتات و أنهار ، و لعلّه لجأ الی الأغوار لدفع غوائل البرد أو محتمیا ً من الحرّ أو امطر ، و هکذا بدأ یکتشف العالم من حوله شیئاً فشیئا.

ثم راح یفکّر بتسخیر الحیوانات و الاستفادة من لحومها و جلودها و فی تنقله من مکان إلی آخر.

وبسبب وجود الغریزة الجنسیة و طغیإنها راح الرجل یبحث عن الانثی لإطفاء تلک الشهوة المتأججة فی أعماقه.

وهکذا استولی الرجل علی امرأة و احدة أو أکثر من أجل إشباع غریزته الجنسیة ، و قد اضطر و من أجل الاحنفاظ بالانثی الی الدفاع عنها و توفیرما تحتاجه من غداء؛ و من هنا بدأت أولی أشکال التعاون بین أفراد النوع البشری.

فقد نتج عن الحیاة المشترکة بین شخصین ظهور الاُسرة التی تتألف من الأب و الام و حضانة ضغارهما حتی سنّ معینه.

وأعقب ظهور الاُسرة تبلور الاجتماع القلبی ، ثم ظهور التجمّع القروی إلی ولادة المدن إلی التجمع علی مستوی أکبر فی إطار الدولة.

وفی کلّّ مراحل التطور الإجتماعی هذه تبرز المصلحة الشخصیة و محأولة تحقیق الفرد لذاته کباعث وحید وراء ذلک.

یقول هوبز: یهدف البشر إلی تسخیر بعضهم بعضا (2).

ولأن غریزة الأنا غریزة ضارة الجذور فی کلّّ أفراد الجنس البشری و هی التی تحرک الإنسان و تحدد سلوکه و مواقفه ، فإن هذا یعنی حدوث الفوضی وبالتالی تعذّر العیش ، فقد وجد الإنسان نفسه مضطرا ً للحدّ من طغیان الإنانیة ، ثم التضحیة ببعض مصالحه من أجل استمرار التشکیل الإجتماعی للحیاة.وبهذا اختار الإنسان حیاة التعاون و المصالح المتبادلة مع أفراد نوعه ، و هکذا اضطر الإنسان إلی کبح النزعات الفردیة أو التخفیف من حدّتها من أجل استمرار النظام الإجتماعی الذی یحقق مطامح الأفراد جمیعا.
الثامنة:

ان من نتائج الحیاة الاجتماعیة الحتمیة بروز التصادم فی رغبات وطموحات الأفراد ؛ ذلک أن کلّّ فرد یسعی لتحقیق ذاته ولو علی حساب الآخرین ، تحرکه فی ذلک عریزة الأنا ، و هو یهذا یتحرّک من أجل تحقیق أکبر قدر من مصالحه الشخصیة ، و من هنا فهو یحأول دائما ًتسخیر الآخرین واستغلال جهودهم و استثمار نشاطهم لصالحه.هکذا تصطدم الرغبات و تتزاحم الإدارات.

وفی هذا المأزق اکتشف العقل البشری-ولکی یجتاز هذه المحنة - اکتشف القانون الاجتماعی الذی یحدّد حقوق الإفراد و واجباتهم تجاه بعضهم البعض ، منعا ً للظلم و العدوان أو سیادة قانون الغابة. ولعلّ الإنسان اکتشف أوّل ما اکتشف فی حیاته الاجتماعیة ضرورة القانون و الشریعة فی تنظیم الحیاة المشترکة فی بدایاتها الأولی.

 

(1) مونتسیکو - روح القوانین.عن النسخة الفارسیة ط5 ، ص678
(2) المصدر السابق ، ص88