الدرس الثالث
القرآن و الرد علی منکری المعاد
أنَّ المعاد و رجوعَ الإنسان إلی عالَم الآخره و إن کان أمراً مسلّماً و قطعیاً، اتّفق علیه جمیعُ الأنبیاء، و أطبقت علیه جمیع الأدیان السماویّة، کما اثبتته البراهینُ العقلیّةُ أیضا، لکنّ فریقاً مِنَ النّاس کانوا و لا یزالُون ینکرون ذلک و یرفضونَ القبول به.
یقول المِنکُرون: عندما یموتُ الإنسانُ و یبلَی جسمُه کیف یعود إلی الحیاة مرّة اُخری ، و کیف یُحشَر؟
ان المنکرین لیس لهم أیُّ دلیلٍ علی النّفی ، بل یستَبعِدون ذلک و یُعِدّونه أمراً غیر عادیّ . و قد کان الکفّارُ فی عهد رسولِ الله (صلّی الله علیه و آله) یستبعِدون ذلک أیضاً، فقد جاء أحدُ الکفّارُ بعظمٍ بالٍ، و سَحَقه بیده ثمّ ذرّه علی الأرض بین یدی رسول الله (ص) و قال : مَن یُحْیی هذِهِ العِظامَ وَ هِی رَمیمٌ ؟!
فنقل القرآنُ الکریمُ هذه القصّة و قال : (أَ وَ لَمْ یَرَ الاْءِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِیمٌ مُبِینٌ . وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِیَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ یُحْیِ الْعِظامَ وَ هِیَ رَمِیمٌ . قُلْ یُحْیِیهَا الَّذِی أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِکُلِّ خَلْقٍ عَلِیمٌ . الَّذِی جَعَلَ لَکُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ . أَ وَ لَیْسَ الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ یَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِیمُ).[30]
فیجیبُ القرآنُ الکریم علی استبعاد المنکرین للمعاد بصورتین:
الصورة الاُولی : و تعتمد علی التذکیر بقدرة الله تعالی . فتقول : إنّ قدرة الله مطلقة لا حدّ لها و لا نهایة... فحیث أنّه قرّرَ المعاد، و قیام عالم الآخرة، واقتضت مشیئته سبحانه أن یعود الناس بعد موتهم إلی الحیاة، و الحضور یوم القیامة لأجل المحاسبة و الجزاء الاُخری ، فعلت قدرته هذا العمل ایضاً، و لم یکن عاجزاً عن ذلِکَ . فقد جاء فی بعض الآیات:
(إِلَى اللّهِ مَرْجِعُکُمْ وَ هُوَ عَلى کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ).[31]
(أیَحسَبُ الإنسانُ ألّن نَجمَعَ عِظامَهُ بَلی قادِرینَ عَلی أن نُسَوِّیَ بَنانَهُ).[32]
الصّوره الثانیة : أشار فی آیات کثیرة إلی نماذج من خلق الموجودات، و حتی الإنسان نفسه لإثبات قدرة الله علی إحیاه الموتی .
(یا أَیُّهَا النّاسُ إِنْ کُنْتُمْ فِی رَیْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناکُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَیْرِ مُخَلَّقَةٍ . لِنُبَیِّنَ لَکُمْ وَ نُقِرُّ فِی الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُکُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّکُمْ وَ مِنْکُمْ مَنْ یُتَوَفّى وَ مِنْکُمْ مَنْ یُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِکَیْلا یَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَیْئاً وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَیْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ کُلِّ زَوْجٍ بَهِیجٍ ذلِکَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّهُ یُحْیِ الْمَوْتى وَ أَنَّهُ عَلى کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ وَ أَنَّ السّاعَةَ آتِیَةٌ لا رَیْبَ فِیها وَ أَنَّ اللّهَ یَبْعَثُ مَنْ فِی الْقُبُورِ).[33]
(أَ وَ لَمْ یَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ یَعْیَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ یُحْیِیَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ).[34]
(ذلِکَ جَزاؤهُمْ بِأَنَّهُمْ کَفَرُوا بِآیاتِنا وَ قالُوا أَ إِذا کُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِیداً أَوَلَمْ یَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ یَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَیْبَ فِیهِ فَأَبَى الظّالِمُونَ إِلاّ کُفُوراً).[35]
فی هذه الآیات و نظائرها یشیر القرآن - لاثبات قدرة الله علی إحیاء البشر بعد الموت - إلی عدّة شواهد و نماذج:
1- إنّ الله الحکیم القادر أوجد البشر من هذه الموادّ المیتة الجامدة فی الطبیعة، و وهبها الحیاة.
2- إنّ ربَّ العالم بإنزال الغیث و توفیر غیر ذلک من الظروف و الشرائط یمنح بذور النباتات والاشجار الحیاة، و یوجد منها کائناتٍ حیّةً وجدیدةً باْسم النباتِ و الشجرِ.
3- إنّ السّماءَ و الأرضَ و الشّمسَ و القَمر مخلوقةٌ لله تعالی مثل بقیة المخلوقات.
و فی هذه الآیات یجیب المنکرین للمعاد الّذین یستبعدون عودة الموتی إلی الحیاة هکذا: لماذا تستعبدونَ إحیاءَ البشر بعد الموت، مع أنّکم تشاهدون باستمرار نشوءَ البشر الأحیاء الجُدُد مِن هذه الموادّ المیّتة، و نشوءَ النباتات و الاشجار؟ إنّکمْ ترون باْستمرار تجدّدَ حیاة الکَون ، و لا تستبعدونَ ذلک، و مع ذلک تنکرون تجدّد حیاة الانسان فی یوم القیامة؟
إنکم تعلمون أنّ الله المتعالَ أوجدَ الأرضَ والسّماءَ والشمسَ والقمَر والنجومَ من العدم، فهل یکون عاجزاً عن إحیاء البشر مرّة اُخری فی القیامة؟
إنّ هذه الآیات و نظائرها هی لرفع استبعادهم ، و تقریب المسألة إلی الأذهان. و لکنّه عَمَدَ فی آیاتٍ اُخری إلی حلِّ المشکلة بنحوٍ آخر إذ قال: إنّ البشرَ لا یَفْنَون بالموت حتی تستبعدوا تجدّد حیاتهم، بل یبقون أحیاءً، یواصِلُون حیاتهم فی عالم البرزخ.
(وَ قالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِی الْأَرْضِ أَإِنّا لَفِی خَلْقٍ جَدِیدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ کافِرُونَ. قُلْ یَتَوَفّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِی وُکِّلَ بِکُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّکُمْ تُرْجَعُونَ).[36]
یقول العلامة الطباطبائی قدس الله سرّه الشریف فی تفسیر هذه الآیة:
امر الله تعالی رسوله أن یجیب عن حجتهم المبنیة علی الاستبعاد بأن حقیقة الموت لیس بطلاناً لکم و ضلالاً منکم فی الأرض بل ملک الموت الموکل بکم یأخذکم تامین کاملین من أجسادکم أی ینزع أرواحکم من أبدانکم بمعنی قطع علاقتها من الأبدان و أرواحکم تمام حقیقتکم فأنتم أی ما یعنی بلفظة «کم» محفوظون لا یضل منکم شیء فی الأرض و إنما تضل الأبدان و تتغیر من حال إلی حال و قد کانت فی معرض التغیر من أول کینونتها. ثم إنکم محفوظون حتی ترجعوا إلی ربکم بالبعث و رجوع الأرواح الی أجسادها.
و بهذا تندفع حجتهم علی نفی المعاد بضلالهم سواء قررت علی نحو الاستبعاد أو قررت علی أن تلاشی البدن یبطل شخصیة الإنسان فینعدم و لا معنی لإعادة المعدوم فإن حقیقة الإنسان هی نفسه التی یحکی عنها بقول «أنا» و هی غیر البدن و البدن تابع لها فی شخصیته و هی لا تتلاشی بالموت و لا تنعدم بل محفوظة فی قدرة الله حتی یؤذن فی رجوعها إلی ربها للحساب و الجزاء فیبعث علی الشریطة التی ذکر الله سبحانه.[37]
إنّ هناک – مضافاً إلی هذه الآیة – آیاتٍ اُخری فی القرآن الکریم تدلّ علی أنّ روحَ الانسان لا تفنی بالموت، بل الرّوحُ موجودٌ مجرّدٌ من المادّه ینتقل بعد مفارقة البدن من هذا العالَم إلی عالم البرزخ ، و یواصلُ حیاتَه البرزخیه، مثل قوله تعالی:
(وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ یُقْتَلُ فِی سَبِیلِ اللّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْیاءٌ وَ لکِنْ لا تَشْعُرُونَ).[38]
(وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا فِی سَبِیلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْیاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُونَ. فَرِحِینَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ یَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِینَ لَمْ یَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَ لا هُمْ یَحْزَنُونَ).[39]
فمن هذه الآیات و نظائرها یستفاد أنّ أرواح الشهداء لا تفنی بعد الشهادة بل تبقی حیّةً خالدةً ترزَق عند ربّها.
و من المسلَّم أنَّ الخلودَ و البَقاء لا یختَصّان بأرواح الشهداء بل یشملان کلّ البشر حیث یواصلون حیاتهم فی عالم البرزخ حتی یُعادُوا إلی حیاة جدیدة فی القیامة للحساب و الجزاء.
و علی هذا الاساس یرتفع إشکال المنکرین للمعاد، و یَبطلُ استبعادهم بصورةٍ کاملةٍ، لأنّ الأرواح لا تفنَی لیستبعدوا إیجادها ثانیةً بل هی باقیةٌ و خالِدة، و تتجدّد حیاتُها فی القیامة فی حیاة أعلی.
إنّ مسألة تجدّدِ النفوس البَشَریة و بقائها مسألة مهمّة جدّاً، و قد بُحِثَتْ فی الکتب الفَلسَفیّة، و تمّ اثباتُها بأدلّةَ قاطعة، وَ لکنّنا حیث لا یمکننا أن نتناوَلَ فی هذه الرسالة المختَصَرة هذا البحثَ الهامّ، لذا ستقرأونه فی الکتب الاُخری ان شاءالله تعالی.
فکِّروا و اجیبوا
1 – هل یتملک منکروا المعاد دلیلاً علی نفیه؟
2 – کیف یکونُ إنکار المنکرین للمعاد؟
3 – کیف یجیب القرآن الکریم علی استبعاد المنکرین؟
4 – ما هی الشواهد التی یستدل بها لرفع الاستبعاد؟
5 – وضّحوا جواب القرآن جیّداً؟
6 – ماذا یقول القرآن فی الجواب النهائی علی المنکرین؟
7 – وضّحوا کلام العلّامة الطباطبائی کاملاً؟
8 – هل تفنی أرواح البشر بالموت؟
9 – تعلّموا تفسیر هذه الآیات و استوعبوه جیّداً.
10 – احفظوا الآیات.
[30] .یس – 77/81. رمیم : بالی . توقدون : تشعلون النار و تتخذون الوقود.
[31] هود، 4.
[32] القیامه 3/4. البنان : اطراف الاصابع.
[33] الحج 5/7 الریب: الشک. العَلقه: الدم الجامد الذی تستحیل الیه انطقه عند انعقاد الولد. المضعة: قطعة لحم حمراء مخلّقة و غیر مخلّقة: تامة الخلق و غیر تامه الخلق. هامدة: یابسة میتة: ربت: انتفحة. بهیج: حَسَن نضر یدعو الی البهجة و المسرّة و الانشراح.
[34] الاحقاف – 33.
[35] الاسراء – 98/99. الرفات: الحطام و ما تناثر من کل شیء.
[36] السجده – 10/11.
[37] المیزان فی تفسیر القرآن، ج16 ص265.
[38] البقره – 154.
[39] آل عمران – 169 / 170.