الدرس الخامس
سکرة الموت
إنّ مفارقة الرّوح للبدن، و قطع العلاقة بینهما لیس أمراً سهلاً، فالروح و النفس الانسانیة اتّحدت مع جسدها، و ارتبطت به إرتباطاً شدیداً سنواتٍ عدیدة و مدیدة، و اهتّمت إهتماماً شدیداً بحفظ الجسد و تربیته، و ضمانِ رفاهه و التذاذه... و استَخدمت کلَّ مالدیها من فکرٍ و تدبیر فی هذا السبیل، و کانت تری شخصیّتها الانسانیّة و کمالاتها فی هذا الجسد. فاجتهدت لیل نهار فی سبیل توفّر ظروف العیش الهنیء، و الحیاة المستقرة له، و کانت تری سعادتها و کمالها فی جمع الأموال، و اقتناء الزینة و الحلّی، و تحصیل المنصب و الجاه، و کانت تأنس بهما، و تطمئنّ إلیهما إلی حدّ العبادة... و قد غفل عن شخصیته الروحانیّة، و حیاته و سعادته المعنویة بصورةٍ کاملةٍ، و لم یعمل لضمان حاجاتها.... و بکلمةٍ واحدةٍ، عمّر دنیاه، و لم یعمل شیئاً لحیاة الآخرة الخالدة.
إنّ مِثل هذا الانسان و بمثل هذه التّصورات و الأفکار سیری نفسَه عند الموت مضطرّاً إلی أن یترک حصیلة سعیه الطویل، و یغادر أحبّ الاشیاء الّتی تعلّق بها، و یذهب إلی منزله الأبدیّ الّذی لم یرده، و لم یهیّیء له مقدماتِه و متطلّباته اللّازمة، و مثل هذا العمل سیکون صعباً و مؤلماً جدّاً.
و لقد ورد فی أحادیث المعصومین أنّ الانسان حین الموت و عند آخر لحظة من حیاته ینتبه من غفلته، و تنکشف حُجُبُ الأوهام، و الأفکار الباطلة عن عینیه فیشاهد أعماله السابقة مشاهدةً و یعاینها معاینة، و یری نفسه فی رحاب الموت و الانتقال إلی عالم الآخرة الّذی هدّمه، فیستوحش منه، و لکنّه لا یملک إلّا الورود فیه.
إنّ حالة الاضطراب و الاندهاش الشدیدة التی تعتری هذا الانسان لا یمکن وصفها، و قد عُبِّر عنها فی القرآن بسکرة الموت.
قال عزوجل فی القرآن الکریم: (وَ جاءَتْ سَکْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِکَ ما کُنْتَ مِنْهُ تَحِیدُ). [50]
(وَ لَوْ تَرى إِذِ الظّالِمُونَ فِی غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِکَةُ باسِطُوا أَیْدِیهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَکُمُ الْیَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما کُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَیْرَ الْحَقِّ وَ کُنْتُمْ عَنْ آیاتِهِ تَسْتَکْبِرُونَ).[51]
و قد أخبروا فی الأحادیث أیضاً بأحوال الانسان عند الموت، و بالمصاعب و المتاعب الواردة علیه فی تلک الساعة.
و للمثال: قال أمیر المؤمنین فی نهج البلاغة: فبینا هو کذلک علی جناحٍ من فِراق الدُنیا، و ترکِ الأحبّة، إذ عرضَ له عارض من غُصَصِه، فتحیّرت نوافذُ فطنته، و یبُست رطوبةُ لِسانه، فکم من مهِمٍّ من جوابٍ عَرِفَه فعیَّ عن رَدّه، و دعاءٍ مؤلِم بقلبه سمعه فتصامّ عنه، من کبیر کان یعظمه، أو صغیر کان یرحُمه، و إنّ للموت لغَمَرات هی أفضع من أن تستغرقَ بصفة أو تعتدل علی عقول أهل الدنیا.[52]
و قال علیه السلام: کَیفَ نَزَل بِهِم مّا کانُوا یجهَلوُنَ ، وَ جاءَهُم مِّن فِراقِ الدُّنیا ما کانُوا یأمَنُونَ ، و قَدِمُوا مِنَ الآخِرَةِ عَلی ما کانُوا یوعَدُونَ، فَغَیرُ مَوصُوفٍ ما نَزَلَ بِهِمُ. اجتَمَعَت عَلَیهِم سَکرَةُ المَوتِ وَ حَسرَةُ الفَوتِ، فَقَترَت لَها أطرافُهُم، و تَغَیَّرَت لَها ألوانُهُم ثُمَّ ازْداد المَوتُ فِیهِم وُلُوجاً فَحِیلَ بَینَ أحَدِهِم وَ بَینَ مَنطِقِهِ، و إنَّهُ لَبَیْنَ أهلِهِ ینظُرُ بِبَصَرهِ، و یسمَعُ بِأُذُنِهِ – عَلی صحَّةٍ مِّن عَقلِهِ وَ بَقاءٍ مِّن لُّبِّهِ – یُفَکِّرُ فِیم أفنی عُمُرَهُ وَ فِیمَ أذهَبَ دَهْرَهُ ، و یتَذَکَّرُ أموالاً جَمَعَها. أَغْمَضَ فی مَطالِبِها، و أَخَذَها مِن مُّصَرَّحاتِها وَ مُشتَبِهاتِها، قَد لَزِمَتْهُ تَبِعاتُ جَمْعِها، و أشرَفَ عَلی فِراقِها. تَبقی لِمَن وَّراءَهُ ینعَمُون فِیها، و یتَمَتَّعُونَ بها، فَیکُونَ المَهنَأُ لِغَیرِهِ، وَ العِبْءُ عَلی ظَهرهِ، وَ الْمَرءُ قَدْ غَلِقَت رُهُونُهُ بِها، فَهُوَ یَعَضّ یَدَهُ نَدامَةً عَلی ما أَصْحَرَ لَهُ عِندَ المَوتِ مِن أمرِهِ وَ یزهَدُ فیما کان یرغَبُ فِیهِ أیّامَ عُمُرِهِ، وَ یتَمَنَّی أَنَّ الَّذی کانَ یَغبِطُهُ بِها وَ یَحسُدُهُ عَلَیها قَد حازَها دُونَهُ، فَلَمَ یَزَلِ الْمَوْتُ یُبالغُ فِی جَسَدِهِ حَتّی خالَطَ لِسانُهُ سَمْعَهُ.[53]
مِن هذه الاحادیث و نظائرها الکثیرة یستفاد أنّ مرحلة الموت إحدی مراحل الحیاة الصعبة المرّة التی یجب أن یهیّیء الانسان نفسه لها، و لکنّ هذه المرحلة أیضاً لیست سواء بالنسبة إلی جمیع أفراد البشر، بل تتفاوت من إنسان إلی آخر تفاوتاً کبیراً.
و علی الاجمال: إنّ متاعب نزع الروح، و مصاعب الموت، تناسب مقدار التعلّق بالدینا، فکلّما کانت تعلّقات الانسان بالأمور الدنیویة أکثر, و کان أکثر غفلة عن ذکرِ الله و العالم الأخروی، کان الموت، و قطع إرتباطه بالدنیا أشدّ و أصعب، و کلّما کان اُنسه بالله و العالَم الاخرویّ أقوی، کان موته أیضاً أسهل بنفس المقدار، حتی أنّ الموت بالنسبة إلی بعض الاشخاص لا یکون أمراً صعباً أبداً، بل یستقبلونه بمنتهی الرغبة، و المَسَرّة.
و قد جاء التصریح بهذه الحقیقة فی بعض الاحادیث الشریفة أیضاً.
قیل للصادق علیه السلام: صف لنا الموت قال: للمؤمن کأطیب طیبٍ یشمّه ، فینعش بطیبه، و ینقطع التعب عنه، و للکافر کلسعِ الأفاعی ولدغ العقارب واشدّ![54]
قال محمّد بن علی علیه السلام: قیل لعلی بن الحسین علیهما السلام: ما الموت؟
قال: للمومن کنزع ثیاب و سِخة قَمِلَة و فکٌ قیودٍ و أغلالٍ ثقیلة و الاستبدال بأفخر الثیاب و أطیبها روائح، و أوطإ المراکب و آنسِ المنازل، و للکافِر کخلع ثیاب فاخِرَة و النقل عن منازل أنیسة، و الاستبدال بأوسخ الثیاب و أخشنها و أوحش المنازل و أعظم العذاب. [55]
عبدالرحیم، عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال: إنما احدکم حین یبلغ نَفَسهُ هاهنا ینزل علیه ملک الموت فیقول: أما ما کنتَ ترجو فقد اُعطیتَه، و أما ما کنتَ تخافه فقد آمنت منهُ؛ و یفتح له باب الی منزله من الجنة، و یقال له: اُنظر إلی مسکنک فی الجنة، و انظر هذا رسول الله و علی و الحسن و الحسین علیهم السلام رفقاوک؛ و هو قول الله: (الَّذِینَ آمَنُوا وَ کانُوا یَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ فِی الاْخِرَةِ).[56]،[57]
و الجدیر بالذِکر أنّ ما یقال حول الإنسان المحتضر مثل: تمثُّلِ بعض الاشیاء أو الأشخاص له و مشاهدتهم له، و ما یدور من سؤال و جواب، و ما یقع من حوار و سماع، و سکرات الموت، و الإحساس بالآلام، أو الرضا و السّرور، جمیعها حقائق واقعة، و لیس أمراً و همیّاً، و ظنّاً باطلاً، ولکنَّ جمیع ذلک یرتبط بالروح المجرّدة الإنسانیة التی تنصرفُ - عند الإحتضار - عن الاُمور الدنیویة، و تغوصُ فی نفسها و باطنها، و تقف علی عتبة الدُخول إلی عالم البرزخ.
و علی هذا فانّ سکراتِ الموت و الآلام النفسیّة و الروحیة، و مشاقّ الموت، هی غیر الآلام الجسدیّة و العذاب البدنّی الذی یعانی منه عند الموت، و إن کان من الممکن أن تسری آثارُ الأمور البرزخیّة إلی هذا العالم أحیاناً.
فکِّروا و اجیبوا
1- ما هی العلّة فی صعوبة انقطاع علاقة الروح عن البدن؟
2- لماذا یندهش الانسان عند الموت؟
3- لماذا یکون الموت سهلاً بالنسبة إلی بعض الأفراد، وصعباً شاقّاً بالنسبة إلی آخرین؟
4- کیف یکون الموت بالنسبة الی المؤمن؟
5- کیف یکون الموت بالنسة إلی الکافی المسیء؟
6- ما هی الاُمور التی تُقال حول الإنسان المحتضر؟
7- احفظوا الآیات و تعلموا تفسیرها.
[50] ق – 19.
[51] الانعام- 93.
[52] نهج البلاغه الخطبة – 221.
[53] نهج البلاغه الخطبة – 109.
[54] بحارالانوار ج 6 ص 172.
[55] بحار الانوار ج 6 ص 155.
[56] بحارالانوار ج6 ص177.
[57] یونس – 63 – 64.