الولادة والشهادة
ولد الامام محمد التقی فی الخامس عشر أو التاسع عشر من شهر رمضان المبارک سنة 196 ه فی المدینة المنورة.
اسمه محمد واسم أبیه علی بن موسى الرضا علیهالسلام واسم امّه سبیکة أو الخیزران[479] کنیته أبو جعفر ( الثانی ) وألقابه: القانع ، المرتضى ، الجواد والتقی[480] والجواد أشهر ألقابه.
کان عمره سبعة أعوام وثمانیة شهور عند رحیل والده علیهالسلام ومدّة امامته سبعة عشر عاماً[481].
وقد استدعاه مع زوجته اُمّ الفضل ( ابنة المأمون ) الخلیفة المعتصم الى بغداد وفی الثامن والعشرین من محرم الحرام سنة 220 ه وصل بغداد وتوفی مسموماً فی ذی القعدة من نفس العام ورحل الى ربه شهیداً حیث
دفن جثمانه الطاهر فی مقابر قریش الى جانب جدّه الامام موسى الکاظم علیهالسلامحیث ضریحه الیوم وکان له من العمر یومئذٍ خمسة وعشرین عاماً وعدّة أشهر[482].
النصوص على امامته
قال الشیخ المفید: ممن روى النص عن أبی الحسن الرضا علیهالسلام على ابنه أبی جعفر علیهالسلام بالامامة ، علی بن جعفر بن محمد الصادق علیهالسلام وصفوان بن یحیى ومعمر بن خلاد والحسین بن یسار وابن أبی نصر البزنطی وابن فیاما الواسطی والحسن بن الجهم وأبو یحیى الصنعانی والخیرانی ویحیى بن حبیب الزیات[483].
وقال علی بن جعفر یحدّث الحسن بن الحسین بن علی بن الحسین: لقد نصر اللّه أبا الحسن علیهالسلام بغى علیه اخوته وعمومته ( وذکر حدیثاً طویلاً ) حتى انتهى الى قوله فقمت وقبضت على ید أبی جعفر محمد بن علی الرضا علیهالسلام وقلت له:
ـ اشهد انک امام عند اللّه.
فبکى الرضا علیهالسلام ثم قال:
یا عم ألم تسمع أبی وهو یقول: قال رسول اللّه صلىاللهعلیهوآله: بأبی خیرة ابن خیرة الاماء النوبیة الطیبة یکون من ولده الطرید الشرید الموتور بأبیه
وجده وصاحب الغیبة فقال: مات أو هلک فی أی واد سلک؟
صدقت جعلت فداک[484].
وقال صفوان بن یحیى: قلت للرضا علیهالسلام:
قد کنا نسألک قبل أن یهب اللّه لک أبا جعفر فکنت تقول: یهب اللّه لی غلاماً فقد وهبه اللّه لک وقرّ عیوننا به فلا أمرنا اللّه یومک ( وفاتک ) فان کان کون فالى من؟
فأشار ( الامام الرضا علیهالسلام ) الى أبی جعفر ( الامام الجواد ) وهو قائم بین یدیه.
فقلت له:
ـ جعلت فداک وهذا ابن ثلاث سنین؟
قال علیهالسلام:
ـ وما یضرّ من ذلک؟ قد کان ( قام ) عیسى بالحجة وهو ابن أقل من ثلاث سنین[485].
وروى معمر بن خلاد قال: سمعت الرضا علیهالسلام ( وذکر شیئاً ) فقال علیهالسلام:
ـ ما حاجتکم الى ذلک؟ هذا أبو جعفر قد اجلسته مجلسی وصیرته مکانی.
وقال علیهالسلام:
إنّا أهل بیت یتوارث أصاغرنا عن أکابرنا القذة بالقذة ( کل شیء )[486].
وروى الحسین بن یسار قال: کتب ابن قیامام الى الامام أبی الحسن الرضا علیهالسلام کتاباً یقول فیه: « کیف تکون اماماً ولیس لک ولد؟
فأجابه أبو الحسن علیهالسلام:
ـ وما علمک انه لا یکون لی ولد؟ واللّه لا تمضی الأیام واللیالی حتى یرزقنی اللّه ذکراً یفرق بین الحق والباطل[487].
وقال ابن أبی نصر البزنطی: قال لی ابن النجاشی:
ـ من الامام بعد صاحبک؟ فأحب أن تسأله حتى أعلم.
فدخلت على الرضا علیهالسلام فأخبرته فقال علیهالسلام لی:
ـ الامام ابنی.
ولیس له ولد ( لم یکن له ولد آنذاک ).
یقول ابن أبی نصر ( معلقاً ): هل یجترئ أحد أن یقول: ابنی ولیس له ولد ولم یکن ولد أبو جعفر علیهالسلام ( یومذاک ) فلم تمض الأیام حتّى ولد علیهالسلام[488].
وروى ابن قیاما الواسطی وکان واقفیاً ( لم یعترف بامامة الرضا علیهالسلام یومئذ ):
قال: دخلت على علی بن موسى الرضا فقلت له:
أیکون امامان ( فی نفسی الوقت )؟
قال علیهالسلام:
ـ لا ؛ الاّ أن یکون أحدهما صامتاً.
فقلت له:
ـ هو ذا أنت لیس لک صامت.
فقال علیهالسلام لی:
ـ لیجعلن اللّه منی ما یثبت به الحق وأهله و یمحق به الباطل وأهله یقول ابن قیاما ( معلقاً ): ولم یکن فی الوقت ( یومئذ ) له ولد فولد له أبو جعفر علیهالسلام بعد سنة.
وقال الحسن بن الجهم: کنت مع أبی الحسن علیهالسلام جالساً فدعا بابنه وهو صغیر فأجلسه فی حجری وقال لی:
ـ جرده انزع قمیصه.
فنزعته فقال علیهالسلام لی:
ـ انظر بین کتفیه.
فنظرت فی احدى کتفیه شبه الخاتم داخل اللحم ثم قال علیهالسلام لی:
ـ أترى هذا؟ مثله فی هذا الموضع کان من أبی علیهالسلام[489].
وقال أبو یحیى الصنعانی: کنت عند أبی الحسن علیهالسلام فجیىء بابنه أبی جعفر علیهالسلام وهو صغیر فقال:
ـ هذا المولود الذی لم یولد مولود أعظم على شیعتنا برکة منه[490].
وروى الخیرانی عن أبیه قال: کنت واقفاً بین یدی أبی الحسن الرضا علیهالسلام بخراسان فقال قائل:
ـ یا سیدی إن کان کائن فالى من؟
قال علیهالسلام:
ـ الى أبی جعفر ابنی.
فکأن القائل قد استصغر سن أبی جعفر علیهالسلام فقال أبو الحسن علیهالسلام:
ان اللّه سبحانه بعث عیسى بن مریم رسولاً نبیاً صاحب شریعة مبتدأة فی اصغر من السن الذی فیه أبو جعفر[491].
وروى محمد بن أبی عباد وکان یکتب للرضا علیهالسلام ( کاتباً عنده ) ضمه الیه ( عینه الفضل بن سهل وزیر المأمون ) قال: ما کان ( الرضا علیهالسلام ) یذکر محمداً ابنه الاّ بکنیته یقول علیهالسلام:
کتب الیّ أبو جعفر وکنت اکتب الى أبی جعفر وهو صبیّ بالمدینة فیخاطبه بالتعظیم وترد ( تصل ) کتب ( رسائل ) أبی جعفر علیهالسلام فی نهایة البلاغة والحسن فسمعته ( سمعت الرضا علیهالسلام ) یقول:
ـ أبو جعفر وصیی وخلیفتی فی أهلی بعدی[492].
وروى مسافر قال: أمرنی أبو الحسن علیهالسلام بخراسان فقال:
ـ الحق بأبی جعفر فانه صاحبک[493].
وقال ابراهیم بن أبی محمود: کنت واقفاً عند رأس أبی الحسن علیهالسلام علی بن موسى الرضا علیهالسلام بطوس ( إذ ) قال له بعض من کان عنده ( من الحضور ):
ـ ان حدث حدث فالى من؟
قال علیهالسلام:
ـ الى ابنی محمد.
وکأن السائل استصغر سنّ أبی جعفر علیهالسلام فقال له أبو الحسن علی بن موسى علیهالسلام:
ـ ان اللّه بعث عیسى بن مریم نبیاً ثابتاً باقامة شریعته فی دون السن الذی اقیم فیه أبو جعفر ثابتاً على شریعته[494].
وروى ابن بزیع قال: سئل الامام الرضا علیهالسلام أو قیل له:
ـ أتکون الامامة فی عمّ أو خال؟
فقال علیهالسلام:
ـ لا.
فقال السائل:
ـ ففی من؟
قال علیهالسلام:
ـ فی ولدی.
وهو علیهالسلام یومئذ لا ولد له[495].
فضائله ومکارم أخلاقه
کان الامام محمد الجواد فی ذروة الکمال الانسانی وقد بهر أهل عصره بخلقه الکریم وأدبه الجم.
وکنا قد أشرنا الى مسألة الکمال الانسانی فی شخصیة الامام وان الأئمّة جمیعاً علیهمالسلام کانوا یمثلون أعلى درجات الانسانیة والنیل والخلق الکریم وقد اشتهر الامام بلقب « الجواد » لکرمه وسخائه وجوده غیر ان عاش فی ظروف صعبة وکانت امامته مبکرة کما انه رحل عن الدنیا وهو فی ریعان الشباب ولم یتسنّ له من الوقت الاّ القلیل فی نشر أحادیث ومعارف وعلوم جدّه النبی صلىاللهعلیهوآله وآبائه الکرام.
ومع انه أصبح اماماً وتصدّى لحمل هذه المسؤولیة الخطیرة وهو دون الثامنة من العمر الاّ انه بهر علماء عصره بشخصیته العلمیة.
قال الشیخ المفید:
وکان المأمون قد شغف بأبی جعفر علیهالسلام لما رأى من فضله مع صغر سنه وبلوغه فی العلم والحکمة والأدب وکمال العقل ما لم یساوه فیه أحد من مشایخ أهل الزمان فزوجه ابنته اُمّ الفضل وحملها معه الى
المدینة وکان متوفراً على اکرامه وتعظیمه واجلال قدره[496].
وکتب أبو الفرج عبدالرحمان بن الجوزی الحنفی عن الامام محمد بن علی بن موسى علیهالسلام انه کان فی علمه وتقواه وزهده وجوده على سیرة أبیه وان المأمون استدعاه الى بغداد وذلک بعد رحیل والده الرضا علیهالسلام وانه اکرمه وزوجه ابنته اُمّ الفضل[497].
عن الریان بن شبیب قال:
لما أراد المأمون أن یزوج ابنته أم الفضل أبا جعفر محمد بن علی علیهالسلام بلغ ذلک العباسیین فغلظ علیهم واستنکروه منه وخافوا أن ینتهی الأمر معه إلى ما انتهى مع الرضا علیهالسلام فخاضوا فی ذلک واجتمع منهم أهل بیته الأدنون منه.
فقالوا ننشدک اللّه یا أمیرالمؤنین أن تقیم على هذا الأمر الذی عزمت علیه من تزویج ابن الرضا فإنا نخاف أن یخرج به عنا أمر قد ملکناه اللّه عز وجل وینزع منا عزا قد ألبسناه اللّه وقد عرفت ما بیننا وبین هؤاء القوم قدیما وحدیثا وما کان علیه الخلفاء الراشدون قبلک من تبعیدهم والتصغیر بهم وقد کنا فی وهلة من عملک مع الرضا علیهالسلام ما عملت فکفانا اللّه المهم من ذلک فاللّه اللّه أن تردنا إلى غم قد انحسر عنا واصرف رأیک عن ابن الرضا واعدل إلى من تراه من أهل بیتک یصلح لذلک دون غیره.
فقال لهم المأمون أما ما بینکم وبین آل أبی طالب فأنتم السبب فیه ولو أنصفتم القوم لکانوا أولى بکم وأما ما کان یفعله من قبلی بهم فقد کان قاطعا للرحم وأعوذ باللّه من ذلک واللّه ما ندمت على ما کان منی من استخلاف الرضا علیهالسلامولقد سألته أن یقوم بالأمر وأنزعه من نفسی فأبى وکان أمر اللّه قدرا مقدورا وأما أبو جعفر محمد بن علیّ فقد اخترته لتبریزه على کافة أهل الفضل فی العلم والفضل مع صغر سنه والأعجوبة فیه بذلک وأنا أرجو أن یظهر للناس ما قد عرفته منه فیعلمون أن الرأی ما رأیت فیه.
فقالوا له إن هذا الفتى وإن راقک منه هدیه فإنه صبی لا معرفة له ولا فقه فأمهله لیتأدب ثم اصنع ما تراه بعد ذلک.
فقال لهم: ویحکم إنی أعرف بهذا الفتى منکم وإن أهل هذا البیت علمهم من اللّه تعالى ومواده وإلهامه لم تزل آباؤ أغنیاء فی علم الدین والأدب عن الرعایا الناقصة عن حد الکمال فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما یتبین لکم به ما وصفت لکم من حاله.
قالوا: قد رضینا لک یا أمیرالمؤنین ولأنفسنا بامتحانه فخل بیننا وبینه لننصب من یسأله بحضرتک عن شیء من فقه الشریعة فإن أصاب فی الجواب عنه لم یکن لنا اعتراض فی أمره وظهر للخاصة والعامة سدید رأی أمیرالمؤنین فیه وإن عجز عن ذلک فقد کفینا الخطب فی معناه.
فقال لهم المأمون: شأنکم وذلک متى أردتم فخرجوا من عنده واجتمع رأیهم على مسألة یحیى بن أکثم وهو یومئذ قاضی الزمان على أن یسأله مسألة لا یعرف الجواب فیها ووعدوه بأموال نفیسة على ذلک وعادوا إلى المأمون وسألوه أن یختار لهم یوما للاجتماع فأجابهم إلى
ذلک فاجتمعوا فی الیوم الذی اتفقوا علیه وحضر معهم یحیى بن أکثم وأمر المأمون أن یفرش لأبی جعفر دست ویجعل له فیه مسورتان ففعل ذلک وخرج أبو جعفر وهو یومئذ ابن تسع سنین وأشهر فجلس بین المسورتین وجلس یحیى بن أکثم بین یدیه و قام الناس فی مراتبهم والمأمون جالس فی دست متصل بدست أبی جعفر علیه الصلاة والسلام.
فقال یحیى بن أکثم للمأمون: یأذن لی أمیرالمؤنین أن أسأل أبا جعفر عن مسألة؟
فقال له المأمون: استأذنه فی ذلک.
فأقبل علیه یحیى بن أکثم فقال: أتأذن لی جعلت فداک فی مسألة.
فقال أبو جعفر علیهالسلام: سل إن شئت.
قال یحیى: ما تقول جعلت فداک فی محرم قتل صیدا.
فقال أبو جعفر علیهالسلام: قتله فی حل أو حرم عالما کان المحرم أو جاهلا قتله عمدا أو خطأ حراً کان المحرم أو عبدا صغیرا کان أو کبیرا مبتدئا بالقتل أو معیدا من ذوات الطیر کان الصید أم من غیرها من صغار الصید أم من کبارها مصرا على ما فعل أو نادما فی اللیل کان قتله للصید أم فی النهار محرماکان بالعمرة إذ قتله أو بالحج کان محرما فتحیر یحیى بن أکثم وبان فی وجهه العجز والانقطاع ولجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره.
فقال المأمون: الحمد للّه على هذه النعمة والتوفیق لی فی الرأی ثم
نظر إلى أهل بیته.
فقال لهم أعرفتم الآن ما کنتم تنکرونه ثم أقبل على أبی جعفر علیهالسلام.
فقال له: أتخطب یا أبا جعفر.
فقال: نعم یا أمیرالمؤنین.
فقال له المأمون: اخطب لنفسک جعلت فداک قد رضیتک لنفسی وأنا مزوجک أم الفضل ابنتی وإن رغم قوم لذلک.
فقال أبو جعفر علیهالسلام: الحمد للّه إقرارا بنعمته ولا إله إلا اللّه إخلاصا لوحدانیته وصلى اللّه على محمد سید بریته والأصفیاء من عترته أما بعد فقد کان من فضل اللّه على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام.
وقال سبحانه « وَأَنْکِحُوا الْأَیامى مِنْکُمْ وَالصّالِحینَ مِنْ عِبادِکُمْ وَإِمائِکُمْ إِنْ یَکُونُوا فُقَراءَ یُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللّهُ واسِعٌ عَلیمٌ »ثم إن محمد بن علی بن موسى یخطب أم الفضل بنت عبد اللّه المأمون وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد علیهاالسلام وهو خمسمائة درهم جیادا فهل زوجته یا أمیرالمؤنین بها على هذا الصداق المذکور؟
فقال المأمون: نعم قد زوجتک یا أبا جعفر أم الفضل ابنتی على الصداق المذکور فهل قبلت النکاح؟
قال أبو جعفر علیهالسلام: قد قبلت ذلک ورضیت به فأمر المأمون أن یقعد الناس على مراتبهم فی الخاصة والعامة.
قال الریان ولم نلبث أن سمعنا أصواتا تشبه أصوات الملاحین فی محاوراتهم فإذا الخدم یجرون سفینة مصنوعة من فضة مشدودة بالحبال
من الإبریسم على عجلة مملوة من الغالیة ( نوع من العطور ) ثم أمر المأمون أن تخضب لحاء الخاصة من تلک الغالیة ثم مدت إلى دار العامة فتطیبوا منها ووضعت الموائد فأکل الناس وخرجت الجوائز إلى کل قوم على قدرهم فلما تفرق الناس وبقی من الخاصة من بقی.
قال المأمون لأبی جعفر علیهالسلام: إن رأیت جعلت فداک أن تذکر الفقه الذی فصلته من وجوه من قتلالمحرم لنعلمه ونستفیده.
فقال أبو جعفر علیهالسلام: نعم إن المحرم إذا قتل صیدا فی الحل وکان الصید من ذوات الطیر وکان من کبارها فعلیه شاة فإن أصابه فی الحرم فعلیه الجزاء مضاعفا وإذا قتل فرخا فی الحل فعلیه حمل قد فطم من اللبن وإذا قتله فی الحرم فعلیه الحمل وقیمة الفرخ فإذا کان من الوحش وکان حمار وحش فعلیه بقرة وإن کان نعامة فعلیه بدنة وإن کان ظبیا فعلیه شاة وإن کان قتل شیئا من ذلک فی الحرم فعلیه الجزاء مضاعفا هدیا بالغ الکعبة وإذا أصاب المحرم ما یجب علیه الهدیفیه وکان إحرامه بالحج نحره بمنى وإن کان إحرامه بالعمرة نحره بمکة وجزاء الصید على العالم والجاهل سواء وفی العمد علیه المأثم وهو موضوع عنه فی الخطاء والکفارة على الحر فی نفسه وعلى السید فی عبده والصغیر لا کفارة علیه وهی على الکبیر واجبة والنادم یسقط ندمه عنه عقاب الآخرة والمصر یجب علیه العقاب فی الآخرة.
فقال المأمون أحسنت یا أبا جعفر أحسن اللّه إلیک فإن رأیت أن تسأل یحیى عن مسألة کما سألک.
فقال أبو جعفر علیهالسلام لیحیى: أسألک؟ قال ( یحیى ): ذلک إلیک جعلت فداک فإن عرفت جواب ما تسألنی عنه وإلا استفدته منک.
فقال له أبو جعفر علیهالسلام: أخبرنی عن رجل نظر إلى امرأة فی أول النهار فکان نظره إلیها حراما علیه فلما ارتفع النهار حلت له فلما زالت الشمس حرمت علیه فلما کان وقت العصر حلت له فلما غربت الشمس حرمت علیه فلما دخل وقت العشاء الآخرة حلت له فلما کان وقت انتصاف اللیل حرمت علیه فلما طلع الفجر حلت له ما حال هذه المرأة وبما ذا حلت له وحرمت علیه.
فقال له یحیى بن أکثم: لا واللّه لا أهتدی إلى جواب هذا السؤل ولا أعرف الوجه فیه فإن رأیت أن تفیدناه.
فقال أبو جعفر علیهالسلام: هذه أمة لرجل من الناس نظر إلیها أجنبی فی أول النهار فکان نظره إلیها حراما علیه فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلت له فلما کان عند الظهر أعتقها فحرمت علیه فلما کان وقت العصر تزوجها فحلت له فلما کان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت علیه فلما کان وقت العشاء الآخرة کفر عن الظهار فحلت له فلما کان نصف اللیل طلقها واحدة فحرمت علیه فلما کان عند الفجر راجعها فحلت له.
قال: فأقبل المأمون على من حضره من أهل بیته فقال لهم: هل فیکم من یجیب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب أو یعرف القول فیما تقدم من السؤل؟
قالوا لا واللّه إن أمیرالمؤنین أعلم وما رأى.
فقال: ویحکم إن أهل هذا البیت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل وإن صغر السن فیهم لا یمنعهم من الکمال أما علمتم أن رسول اللّه صلىاللهعلیهوآلهافتتح دعوته بدعاء أمیرالمؤنین علی بن أبی طالب علیهالسلام وهوابن عشر سنین وقبل منه الإسلام وحکم له به ولم یدع أحدا فی سنه غیره وبایع الحسن والحسین علیهماالسلام وهما ابنا دون الست سنین ولم یبایع صبیا غیرهما أو لا تعلمون ما اختص اللّه به هؤاء القوم وأنهم ذریة بعضها من بعض یجری لآخرهم ما یجری لأولهم؟
فقالوا: صدقت یا أمیرالمؤنین.
ثم نهض القوم.
فلما کان من الغد أحضر الناس وحضر أبو جعفر علیهالسلام وسار القواد والحجاب والخاصة والعمال لتهنئة المأمون وأبی جعفر علیهالسلام فأخرجت ثلاثة أطباق من الفضة فیها بنادق مسک وزعفران معجون ؛ فی أجواف تلک البنادق رقاع مکتوبة بأموال جزیلة وعطایا سنیة وإقطاعات فأمرالمأمون بنثرها على القوم من خاصته فکان کل من وقع فی یده بندقة أخرج الرقعة التی فیها والتمسه فأطلق یده له ووضعت البدر فنثر ما فیها على القواد وغیرهم وانصرف الناس وهم أغنیاء بالجوائز والعطایا وتقدم المأمون بالصدقة على کافة المساکین ولم یزل مکرما لأبی جعفر علیهالسلام معظما لقدره مدة حیاته یؤره على ولده وجماعة أهل بیته[498].
قال أبو هاشم الجعفری لأبی جعفر علیهالسلام فی یوم تزوّج اُمّ الفضل ابنة المأمون:
یا مولاى لقد عظمت علینا برکة هذا الیوم.
فقال: یا أبا هاشم عظمت برکات اللّه علینا فیه.
قلت: نعم یا مولاى فما أقول فی الیوم.
فقال: تقول فیه خیراً فانّه یصیبک.
قلت: یا مولاى أفعل هذا ولا اُخالفه.
قال: اذن ترشد ولا ترى إلاّ خیراً[499].
وجاء فی کتاب عیون المعجزات: لما قُبض ( توفی ) الامام الرضا علیهالسلام کان سنّ أبی جعفر نحو سبع سنین فاختلفت الکلمة من الناس ببغداد وفی الأمصار ( حدث جدل حول الامام بعد الرضا علیهالسلام فی أوساط الشیعة فی بغداد وسائر الحوافر الاسلامیة ) واجتمع الریان بن الصلت وصفوان بن یحیى ومحمد بن حکیم وعبدالرحمن بن الحجاج ویونس بن عبدالرحمن بن الحجاج فی برکة زلول یبکون ویتوقّعون من المصیبة فقال لهم یونس بن عبدالرحمن:
ـ دعوا البکاء من لهذا الأمر ( الامامة ) والى من نقصد بالمسائل الى أن یکبر هذا.
وکان یعنی ابن الامام الرضا محمداً.
فقام الیه الریّان بن الصلت ووضع یده فی حلقة ولم یزل یلطمه ویقول له:
ـ انت تظهر الایمان لنا وتبطن الشک والشرک إن کان أمره من اللّه جلّ
وعلا فلو أنه کان ابن یوم واحد لکان بمنزلة الشیخ العالم وفوقه وان لم یکن من عند اللّه فلو عمّر ألف سنة فهو واحد من الناس هذا مما ینبغی أن یفکّر فیه.
فاقبل الحاضرون یوبخونه ( یوبخون عبدالرحمن ).
وکان وقت الموسم ( موسم الحج ) فاجتمع من فقهاء بغداد والأمصار ( المدن الاولى ) وعلمائهم ثمانون رجلاً فخرجوا الى الحج وقصدوا المدینة لیشاهدوا أبا جعفر علیهالسلام فلما أتوا دار جعفر الصادق علیهالسلام لأنها کانت فارغة ودخلوها وجلسوا على بساط کبیر وخرج الیهم عبداللّه بن موسى ( عم الامام الجواد ) فجلس فی صدر المجلس وقام مناد:
هذا ابن رسول اللّه فمن أراد السؤال فلیسأله.
فسئل عن أشیاء أجاب عنها بغیر الواجب ( أجاب خاطئاً ) فورد على الشیعة ( الفقهاء الحاضرین ) ما حیّرهم وغمّهم واضطربت الفقهاء وقاموا وهمّوا بالانصراف وقالوا فی أنفسهم: لو کان أبو جعفر یکمل لجواب المسائل لما کان من عبداللّه ما کان ومن الجواب بغیر الواجب.
( وفی الاثناء ) فُتح علیهم باب من صدر المجلس ودخل موفّق ( الخادم ) وقال:
ـ هذا أبو جعفر.
فقاموا الیه بأجمعهم واستقبلوه وسلّموا علیه فدخل صلوات اللّه علیه وعلیه قمیصان وعمامة بذؤابتین وفی رجلیه نعلان وجلس وأمسک الناس کلّهم ( عن الکلام ).
فقام صاحب المسألة فسأله عن مسائله فأجاب عنها بالحق ففرحوا ودعوا له وأثنوا علیه وقالوا:
ـ ان عمک عبداللّه أفتى بکیت وکیت.
فقال علیهالسلام:
ـ لا إله إلاّ اللّه ! یا عم انه عظیم عند اللّه أن تقف غداً بین یدیه فیقول لک: لم تفتی عبادی بما لم تعلم وفی الامة من هو أعلم منک؟[500]
وبالرغم من الفرصة القصیرة التی اتیحت للامام الجواد نسبیاً وما عاناه الامام حتى فی أوساط الشیعة الاّ انه تمکن من اثبات امامته من خلال تفوقه العلمی وهو ما یزال فتى وأعاد الى الاذهان معجزات الأنبیاء یحیى بن زکریا وعیسى بن مریم علیهماالسلام وممهداً لمن یأتی من بعده من ذرّیته.
وبالرغم من کل ذلک فقد روى عنه الکثیرون وتخرج على یدیه علماء وکان له أصحاب ثقاة وقفوا الى جانبه وآمنوا بامامته.
منهم: أیوب بن نوح ، جعفر بن محمد بن یونس ، الحسین بن مسلم بن الحسن ، المختار بن زیاد العبدی ، محمد بن الحسین بن أبی طالب ، شاذان بن خلیل النیسابوری ، نوح بن شعیب البغدادی ، محمد بن أحمد المحمودی ، أبو یحیى الجرجانی ، أبو القاسم ادریس القمی ، علی بن هارون ، اسحاق بن اسماعیل النیسابوری ، أحمد بن ابراهیم المراغی ، أبو علی بن بلال ، عبداللّه بن محمد الحضینی ، محمد بن الحسن بن سمعون[501].
عبادته وأخلاقه
کان الانسان الکامل فی عصره ومن خلال تفوقه العلمی ندرک أیضاً انه کان یعی حقائق العالم وکان فی الذروة من الایمان الیقینی لهذا فهو فی الذروة أیضاً فی عبادته وأخلاقه وانسانیته.
قال المأمون یخاطب اسرته:
ویحکم ان أهل هذا البیت من الخلق بما ترون من الفضل وان صغر السن فیهم لا یمنعهم من الکمال أما علمتم ان رسول اللّه صلىاللهعلیهوآله افتتح دعوته بدعاء ( بدعوة ) أمیرالمؤمنین علی بن أبی طالب علیهالسلام وهو ابن عشر سنین وقبل منه الاسلام وحکم له به وبایع الحسن والحسین علیهماالسلام وهما ابنا دون ست سنین ولم یبایع صبیاً غیرهما[502].
قال الشیخ المفید: لما توجه أبو جعفر علیهالسلام من بغداد منصرفاً من عند المأمون ومعه اُمّ الفضل قاصداً بها المدینة صار الى شارع باب الکوفة ومعه الناس یشیعونه فانتهى الى دار المسیب عند مغیب الشمس نزل ودخل المسجد وکان فی صحنه نبقة لم تحمل بعد ، فدعا بکوز فیه ماء فتوضأ فی أصل النبقة ، فصلّى بالناس صلاة المغرب فقرأ فی الاولى منها الحمد واذا جاء نصر اللّه وقرأ فی الثانیة منها الحمد وقل هو اللّه أحد وقنت قبل رکوعه وصلّى الثانیة وتشهد وسلّم ثم جلس هنیهة بذکر اللّه تعالى وقام من غیر تعقیب فصلى النوافل أربع رکعات وعقب بعدها وسجد سجدتی الشکر ثم خرج فلما انتهى الى النبقة رآها الناس وقد
حملت حملاً حسناً فتعجبوا من ذلک وأکلوا منها فوجدوه نبقاً لا عجم له ( بدون نوى ).
ومن مناجاته علیهالسلام:
اللهم ان ظلم عبادک قد تمکّن فی بلادک حتى أمات وقطع السبل ومحق الحق وابطل الصدق وأخفى البر وأظهر الشرّ وأخمد التقوى وازال الهدى وازاح الخیر واثبت الغیر وانمى الفساد وقوى العناد وبسط الجور وعدى الطور.
اللهم یا رب لا یکشف ذلک الاّ سلطانک ولا یجیر منهم الاّ امتنانک.
اللهم یا رب فابتر الظلم وبتّ حبال الغشم وأخمد سوق المنکر واعزّ من عنه ینزجر واحصد شأفة أهل الجور والبسهم الحور بعد الکور وعجّل اللهم الیهم البیات وأنزل علیهم المثلات وامت حیاة المنکرات لیؤمن المخوف ویسکن الملهوف ویشبع الجائع ویحفظ الضائع ویأوى الطرید ویعود الشرید ویغنی الفقیر ویجار المستجیر ویوقر الکبیر ویرحم الصغیر ویعزّ المظلوم ویذلّ الظالم ویفرج المغموم وتنفرج الغماء وتسکن الدهماء ویموت الاختلاف ویعلو العلم ویشمل السلم ویجمع الشتات ویقوى الایمان ویتلى القرآن انک أنت الدیّان المنعم المنّان[503].
روى رجل من بنی حنیفة من أهل بست وسجستان قال:
رافقت أبا جعفر علیهالسلام فی السنة التی حج فیها فی أول خلافة المعتصم.
فقلت له وأنا معه على المائدة وهناک جماعة من أولیاء السلطان ( من المسؤولین فی الدولة ):
ـ ان والینا جعلت فداک رجل یتولاّکم أهل البیت ویحبّکم وعلیّ فی دیوانه خراج ( ضرائب ) فان رأیت جعلنی اللّه فداک أن تکتب الیه کتاباً بالاحسان الیّ؟
فقال لی علیهالسلام:
ـ لا أعرفه.
فقلت:
ـ جعلت فداک انه على ما قلت من محبیکم أهل البیت علیهمالسلام وکتابک ینفعنی عنده.
فأخذ القرطاس وکتب:
ـ بسم اللّه الرحمن الرحیم:
أما بعد ؛ فان موصل کتابی هذا ذکر عنک مذهباً جمیلاً وإن ما لک من عملک إلاّ ما أحسنت فیه فأحسن الى اخوانک واعلم ان اللّه عزوجل سائلک عن مثاقیل الذرّ والخردل.
قال ( الرجل الحنفی ): فلما ورد سجستان سبق الخبر الى الحسین بن عبداللّه النیسابوری وهو الوالی فاستقبلنی على فرسخین من المدینة ( بست ) فدفعت الیه الکتاب ، فقبله ووضعه على عینیه ثم قال لی:
ـ ما حاجتک؟
فقلت:
ـ خراج علیّ فی دیوانک !
فأمر ( الوالی ) بطرحه عنّی وقال:
ـ لا تؤدّ خراجاً مادام لی عمل ( مدّة وجودی حاکماً ووالیاً.
ثمّ سألنی عن عیالی؟ فأخبرته بمبلغهم فأمر لی ولهم بما یقوتنا وفضلاً فما أدیت ( لم أدفع ) فی عمله خراجاً مادام حیّاً ولا قطع عنی صلته ( مساعداته ) الى أن مات[504].
وروى داود بن القاسم ( أبو هاشم ) الجعفری قال: دخلت على أبی جعفر ومعی ثلاث رقاع ( رسائل )... فأعطانی ثلاثمئة دینار وأمرنی أن احملها الى بعض بنی عمه وقال:
أما انه سیقول لک دلّنی على حریف ( خبیر بالشؤون التجاریة ) لیشتری لی بها متاعاً ( بضائع ) فدلّه علیه.
قال ( الجعفری ) فأتیته بالدنانیر فقال لی: یا أبا هاشم دلنی على حریف یشتری لی بها متاعاً فقلت: نعم[505].
وروى البزنطی قال: قرأت کتاب أبی الحسن الرضا علیهالسلام الى أبی جعفر:
یا أبا جعفر بلغنی ان الموالی اذا رکبت ( لمغادرة الدار ) أخرجوک من الباب الصغیر وانما ذلک من بخل بهم لئلاّ ینال منک أحد خیراً فأسألک بحقی علیک لا یکن مدخلک ومخرجک الاّ من الباب الکبیر.
واذا رکبت فلیکن معک ذهب وفضة ثم لا یسألک أحد الاّ أعطیته ومن سألک من عمومتک أن تبرّه فلا تعطه أقل من خمسین دیناراً والکثیر الیک ومن سألک من عمّاتک فلا تعطها أقل من خمسة وعشرین دیناراً والکثیر الیک إنی ارید أن یرفعک اللّه فانفق ولا تخش من ذی العرش اقتاراً[506].
[479]. الکافی: ج1، ص492 ؛ بحار الأنوار: ج50، ص2.
[480]. مطالب السؤول: ج2، ص140.
[481]. بحار الأنوار: ج50، ص12.
[482]. المصدر السابق.
[483]. الارشاد: ج2، ص274.
[484]. الارشاد: ج2، ص275.
[485]. المصدر نفسه: ص276.
[486]. المصدر نفسه ؛ الفصول المهمة: ص247.
[487]. الارشاد: ج2، ص277.
[488]. المصدر نفسه.
[489]. المصدر نفسه: ص271.
[490]. المصدر نفسه: ص279.
[491]. المصدر نفسه ؛ الفصول المهمة: ص247.
[492]. بحار الأنوار: ج5، ص18.
[493]. بحار الأنوار: ج5، ص34.
[494]. المصدر نفسه.
[495]. المصدر نفسه: ص35.
[496]. الارشاد: ج2، ص289.
[497]. انظر تذکرة الخواص: ص359.
[498]. بحار الأنوار: ج50، ص72 ـ 79.
[499]. بحار الأنوار: ج50، ص79.
[500]. بحار الأنوار: ج5، ص99 ـ 100.
[501]. مناقب آل أبی طالب: ج4، ص412، وقد بلغ عدد الرواة عنه علیهالسلام 121 رجل.
[502]. الارشاد: ج2، ص287.
[503]. قادتنا: ج7، ص25 نقلاً عن مهج الدعوات: ص328.
[504]. الکافی: ج5، ص111.
[505]. مناقب آل أبی طالب: ج4، ص422.
[506]. بحار الأنوار: ج50، ص102.
